فراق الأمهات عن الأبناء

أمهات كثرفي سوريا ذقن مرارة الفراق، فراق الأبناء، وأنا إحداهن. فقدت ابني الأكبر خالد، وهو في ربيع العمر. اندلعت الثورة السورية في آذار/مارس عام 2011،  وكان ابني خالد حينها في الـ 19 من عمره، سن ذهابه إلى الخدمة العسكرية.

ذهب خالد إلى العسكرية، كان فرحاً جداً بتأدية الواجب تجاه وطنه. تم تحديد مكان خدمته العسكرية في درعا حيث اندلعت الثورة. مرت عدة أشهر ولم أرَ ابني، كنت أتابع أخبار ما يجري في درعا. خفت عليه كثيراً، ولم أصدق نفسي عندما رأيته في أول إجازة له.

دارت الأحاديث بيننا في ما إن كان سيعود لجيشه أم أنه سينشق عنه. فكّرت بالخيارين وكلاهما مرّ.  إن ذهب إلى الجيش لن يهدأ فكري، وهو بعيد عني في مكان يشهد المعارك ومن الممكن أن يصاب بأذى. وإن قرر الانشقاق عن الجيش سيلاحق من الأمن، و لن يهدأ منزلنا من المداهمات. جلّ ما أريده المحافظة على ابني. وبعد جدل و نقاش طويل قرر الانشقاق و التخلف عن الخدمة العسكرية، والتزم مع شباب الثورة. ذهب معهم ولم يكن بوسعي أنا ووالده سوى الدعاء له بأن يحفظه الله و يرده لنا سالماً. لم تجف عيناي من الدموع طوال فترة غيابه عني .

نساء تمشي في حي الفردوس في حلب. تصوير: حسام كويفاتية

يوماً بعد يوم الثورة تكبر وتمتد أكثر وأكثر، انتشر الجيش وقوى الأمن في معظم مدن الغوطة، وفي كل يوم مداهمات و اعتقالات. ندور حول أنفسنا في المنزل حائرين، كيف نخبئ ولدي خالد و نبعده كي لا يعتقله الأمن. قرر خالد أن يذهب مع الشباب الأحرار ليتدرب معهم، لم أكن راضية عن هذا الأمر لكنه كان مصراً جداً، ذهب على دمع عيني. مرّ شهر و نصف ولا أعرف عنه شيئاً، سوى أنه موجود بالغوطة، وهو بخير. كنت كل يوم أطلب مع أعمامه أن يأخذوني إليه لأكحل عيني برؤيته قليلاً. أريد خالد أريد ابني أرجوكم ابحثوا عنه، لكن ما من أحد يسمعني أو يخبرني بشيء يريح قلبي. وتمر الأيام و الشهور على هذه الحال.

في يوم من الأيام في شهر رمضان، سمعت أصوات اشتباكات في قلب المدينة. كانت الاشتباكات عند منعطف حرستا، رفعت يدي للسماء أدعو للشباب أن يحفظهم الله وينصرهم. لم أكن أعلم أن ابني خالد كان معهم يومها. وبعد أيام كثرت زيارة أعمام ولدي ورفاقه إلى منزلنا، أحسست أن مكروها أصاب ولدي. لكنهم وكالعادة لا يخبرونني بشيء سوى أن خالد بخير. حينها توسّلت إليهم فقالوا لي أنه قد أصيب في تلك المعركة. أطلق عليه الأمن الرصاص وأخذوه وهو على قيد الحياة، لم يكن ميتاً.

“هذا ما كنت أخشاه. لماذا لم تخبروني من بداية الأمر؟ أين هو الآن؟ أريد أن أراه خذوني إليه”. ورحت أصرخ و أبكي، فقدت أغلى ما عندي اكتوى قلبي على فراق ابني وردة عمري، وغبت عن الدنيا، فقدت الوعي لساعات. لملت نفسي بعدها وهدأت، عدت إلى وعيي. قلت سأبحث عنه بنفسي. أصبحت أسعى وأسأل إن رآه أحد ما وهو مصاب بين أيدي الأمن، أو وهو يقاتل. كيف أصيب؟ ماذا حدث يومها؟ لم يجبني أحد على أسئلتي. ذهبت إلى أفرع الأمن والمشافي أستخبر، أرى المصابين لعلّي أجده بينهم لكن ما من جدوى.

بحثت عنه في برادات الموتى لعلّي أحظى به، وإن كان ميتاً. أريد أن أريح قلبي. قالوا لي أنهم سيحضرونه مع رفاقه لأتعرف عليه، مقابل مبلغا من المال. قبلت بذلك ودفعت المبلغ وانتظرت إلى أن أتت سيارة الإسعاف لتقف أمام منزلي. فتحوا باب السيارة وكان فيها ثلاثة جثث. لم أعد أذكر ما كان شعوري يومها، بين شوق لرؤية ابني وخوف وألم لفراقه الحياة. رفعت الغطاء عن الجثة الأولى لم أعرف صاحب الجثة، ثم الثانية والثالثة، لم أعرف أحداً منهم، لم يكن ابني ورفاقه بينهم.

هل أحزن لأني لم أجد ابني؟ أم أفرح لأمل جديد بأن أرى ابني على قيد الحياة ثانية؟ منذ ذاك اليوم وأنا أسأل وأبحث. وصلتني أخبار من أحد الشباب الذين كانوا بالمعتقل وأفرج عنهم، أنه رأى ابني خالد في سجن الطغاة و أنه بخير. كلما سمعت أن أحداً من العتقلين أفرج عنه، أسأله ان كان التقى بولدي أو سمع باسمه في المعتقل وما زال الأمل مزروعا في قلبي للقاء ولدي خالد يوماً ما.