عن البوطي والثورة السورية ونص الاعتقاد القادري

إن تاريخ الحركات الأصولية والتكفيرية عبارة عن سلسلة مترابطة، لم يتمكن مشروع النهضة ومحاولات التنوير والإصلاح الديني في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من كسر أي من حلقاتها أو مفاصلها. ومحمد سعيد البوطي ورجال الدين المتنفذين والمتحالفين مع الإستبداد “العلماني” في سوريا ليسوا إلا محطة من تلك المحطات. فالمتظاهرون المطالبون بالحرية ورافعوا شعار “الله، سوريا، حرية وبس” هم أناسٌ، وفقاً للبوطي: “ينتعلون المساجد لمآربهم ولا يعرفون شيئاً إسمه الصلاة، وجباههم لا تعرف السجود. ينقادون لأوامر آتية من الخارج ويحتمل أن تحركها أصابع صهيونية. وجوههم ليست وجوه صلاة، ومظاهرهم مظاهر أناس لا تتعامل مع المساجد بشكل من الأشكال”.

يمكننا تحليل ظاهرة البوطي إذا ألقينا نظرة إلى الوراء. فقبل حوالي ألف عام أعلن الخليفة العباسي القادر بالله إهدار دم المعتزلة وبدء حملة ملاحقتهم وإحراق كتبهم ومخطوطاتهم بتهمة “المروق والزندقة”، في وثيقة عرفت ولا تزال تعرف بـ”نص الإعتقاد القادري”. وينسب بعض المؤرخين إلى ذلك الحدث بدء عصر الإنحطاط والإنغلاق اللاهوتي في التاريخ الإسلامي. بعدها صار تكفير الفلاسفة والفرق الكلامية والمؤرخين ونقّاد الفكر الديني المنغلق على نفسه بداهةً من بداهات الواقع العربي والإسلامي الذي طلّق الاجتهاد والعقل معانقاً النقل والتقليد والتكرار واستعادة نصوص السلف استعادة عمياء. شكّل هذا التطور بداية الرتابة الحياتية والفكرية والسياسية، وأسّس، بغياب حرية النقد والتفكير واختيار المعتقد الديني وغير الديني، للاستبداد السياسي والفكر التكفيري الديني المتحالف مع ذلك الاستبداد كما نراه اليوم في العالم العربي.

لا يبدو المرور ببعض الأسماء التي تستعيد التكفير جديداً. فما أكثر الأمثلة التي يزخر بها تاريخنا العربي والتي تصب في نفس الخانة. غير أن الربيع العربي كان مدخلاً لاستعادة نص الاعتقاد القادري والتكفير، وإن على نطاق أوسع من النخبة التي كانت تمثلها المعتزلة أو غيرها في ذلك الوقت، أي تجاه الشعوب المنتفضة اليوم بوصفها الحامل الاجتماعي لنزعة الحرية والتحرر حاليا، فيما يتبدى الإسلام الصلب العائد إلى المواضي والمتحالف مع السلطان. هو الخصم الحالي والسابق وربما المستقبلي لكل فكر وخيار وفعل يمكن ان يرتكبه المرء بحثاً عن حريته المستلبة واجتراحاً لها. ولنا في القرضاوي وحسن نصر الله وموقفيهما المتعارضين من الثورة في البحرين والثورة في سوريا مثالان فاقعان على ذلك. يضاف إليهما محمد سعيد رمضان البوطي.

ثمة ارتباط وانجدال في المصالح السياسية وغير السياسية بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية في سوريا، إحداهما تغطي ممارسات الأخرى وتدافع عنها. والبوطي اليوم هو الواجهة الأبرز للمؤسسة الدينية المنجدلة مع النظام “العلماني” الحاكم، لدرجة تجاوزت الشكل الرسمي والحدود المفترض أن تفصل بينهما. نرى ذلك في تصريحات للبوطي عن حافظ الأسد ووصفه بـ”القائد الفذ / العبقري / المعين الذي لا ينضب / النهر الدافق / صاحب المواقف التي انبعثت عن إلهام رباني”.

تطور هذا الموضوع والموقف وانتقل من عهد حافظ إلى عهد وريثه بشار الذي يبدو البوطي وفياً له في مواجهة ما يلتقي مع الأسد الابن ونظامه باعتباره “مؤامرة”. هنا، يسقط القناع الذي طالما غطى وجه رجال الدين المتحالفين مع نظام الأسد والمستظلين به لنعود إلى الوجه الحقيقي للإسلام الصلب، التكفيري، الرافض للآخر ولحرية هذا الآخر، مستعيدين ابن تيمية وأحمد بن حنبل وطبعاً، نص الاعتقاد القادري الذي أفتى بقتل المعتزلة قبل عشرة قرون. نرى هذا النص اليوم بواجهة عصرية في كلام البوطي متلطياً بخطاب طهراني يفرز بين المؤمنين وغير المؤمنين. فمن يعارض النظام السوري ويتظاهر ويهتف للحرية في حرم الجامع الأموي أو أي مكان من سوريا هو “منتعل للمساجد لا يعرف الصلاة أو السجود.” والجميع يعرف حـُكم هؤلاء في عرف الإسلام المنغلق لاهوتياً على نفسه، والذي يراه البوطي مرجعية له ويطرح نفسه ناطقاً باسمه على ما تشير كتاباته ومؤلفاته، في حين يسيل الإيمان ويفيض على ما يبدو من وجوه رجال الأمن والشبيحة من حاملي العصي الكهربائية والهراوات في حرم الجامع الأموي أيضاً، والهاتفين “الله، سوريا، بشار وبس”، أو من يقومون بالسجود لصور الأسد في مسيرات التأييد “العفوية”.

والحال، أننا نجد أنفسنا في خضم الثورة السورية أمام نصين قادريين لا يخفف أحدهما عن الشيخ البوطي بقدر ما يزيده تحملاً للمسؤولية بحكم تحالفه مع الاستبداد وتحوله إلى أداة وبوق له. فالنص القادري في الألفية الثالثة صدر أولاً عن الرئيس “الطبيب”، “الشاب”، “العلماني”، ومفاده: “إذا فرضت علينا المعركة فأهلاً وسهلاً بها.” وغني عن التوضيح ما تحمله تلك الكلمات من مخزون عنفي على ما نرى من معارك تقودها دبابات وريث “القائد الفذ والعبقري والمعين الذي لا ينضب” بحسب البوطي، وهي تطحن أجساد المتظاهرين  في حمص وغيرها.

أما النص القادري الثاني فيأتي من سليل القادر بالله وابن تيمية وابو الأعلى المودوي، لا محمد عبده الذي اتهم البوطي محاولاته الإصلاحية بـ”الوباء الإصلاحي” وهو ما شهدناه وقرأناه في كلامه آنف الذكر عن المتظاهرين.

الإسلام دين إشكالي يحتمل تفسيرات وتأويلات عدة. ونحن في العالم العربي والإسلامي لم نجترح بعد حالة تنويرية تقوم بتحييد الإسلام عن الساحة السياسية، أو علمانية حقيقية كالتي صارت نظاماً يسير شؤون البشر في بلدانٍ فصلت الدين عن الدولة منذ قرون. لا بل إن العلمانية التي طالما لوّحت بها بعض الأنظمة العربية تحولت ديناً يكفّر كل من يعتنق مذهب الحرية في الفكر والممارسة والإعتقاد بغير ما يغمز به “الحاكم بأمر الله” العلماني، على ما نرى في “سوريا الأسد”. ولعل الطامة الكبرى التي يمكن أن تلحق بالمرء من جراء الفهم الحرفي لهذا الدين هي تكفيره وهدر دمه، كحال فتاوى الفقيه المتحالف مع السلطان العربي حتى وهو يترنح تحت وقع هتافات وحناجر المنتفضين في المدن العربية الثائرة.

أخيراً، ومنعاً للأحكام المسبقة، نترك الباب مفتوحاً أمام الشيخ البوطي علـــــّه يعود إلى الموقف الأخلاقي المناط بكل إنسان سوري، وهو دعم الثورة السورية والإنحياز لها، وهو ما نرى أنه سيكون، إن حصل، على شكل سيناريو ينفي فيه الشيخ وجود عصابات مسلحة كالتي يدعي النظام وجودها، مبدلاً رواية النظام وإعلامه بما مفاده أن هناك جناً أو ملائكة كالتي قاتلت مع المسلمين في غزوة بدر، تقاتل اليوم في سوريا وتقتل المدنيين والعسكريين. وهو الموقف الذي سيكون منسجماً فيه مع نفسه طالما أن الايمان بالجن واجب على المؤمن العاقل. فيما نَفيُ وجود هؤلاء الجن يشكل مخالفة للقرآن والدين الإسلامي، على ما يدعي الشيخ المقرب جداً من علمانية الأسد، ذلك الرئيس صاحب المواقف التي “انبعثت عن إلهام رباني”.