على الحواجز العسكرية بين داعش والنظام

إنها الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، في 29 نيسان/إبريل 2015. إنها رحلتي قبل الأخيرة إلى مدينة حلب الخاضعة لسيطرة النظام، قبل خروجي من سوريا. في الظلام الدامس مع انقطاع التيار الكهربائي، سمعت بوق السيارة التي تقلني للمدينة.

كنت أحافظ على عملي في مناطق سيطرة النظام، رغم نزوحي من بيتي في منطقة الشيخ مقصود شرقي، بعد أن دخلها الجيش الحر في نيسان/أبريل 2013. لم أجد مكاناً أأتمن عليه بناتي الصغار في ظل الحرب، وغيابي لأيام بسبب صعوبة التنقل على الطرقات، والتي تحتاج من 7 إلى 10 ساعات يومياً. لم أجد أمامي سوى النزوح إلى بيت حماي في الريف الشرقي لمحافظة حلب، حيث سيطرة تنظيم الدولة “داعش”. وفي هذه الفترة كانت داعش تفرض الى جانب اللباس الشرعي وجود محرم (أخ او ابن ،عم أو زوج) للسفر، وهو ما لم اكن أستطيع تأمينه لكوني من محافظة أخرى فلا أقرباء لي هنا، وزوجي خارج القطر.

أمرأة تنظر الى منزل مهدم في حي الكلاسة في حلب. تصوير براء الحلبي

وهكذا تبدأ رحلتي كل عشرين يوماً، مروراً بحواجز داعش والنظام. وبهذا اليوم تتكرر الأحداث تقريباً، في كل مرة اسلك هذا الطريق. سائق السيارة الذي اعتدت السفر معه في كل مرة يطلق صوت البوق عالياً. عندما خرجت وأنا أسدل الخمار (قطعة قماش سوداء تخفي الوجه بالكامل) بادرني بسؤال: “دبرتي محرم أم فرح؟” جوابي لم يفاجئه: “لا”. نظرت إلى داخل السيارة، كان هناك رجل كبير بالسن وامرأة وأطفال. تنفست الصعداء وقلت للسائق: “إنحلت المشكلة”. طبعا السيناريو عبارة عن اقناع عناصر داعش المتواجدين على الحواجز أنني زوجة لإبن الرجل الطاعن بالسن، إي كنّة للعائلة، ولا يوجد ما يجعلهم يشكّون ما دامت هناك عائلة كبيرة، مؤلفة من نساء واطفال. وهكذا حصل.

على طريق الطبقة إثريا، وبعد أن خرجنا من مناطق سيطرة داعش، ودخلنا في مناطق سيطرة النظام، نظرت إلى يدي ووجدت فيها علبة سكائر وقداحة، وضعتها تلك السيدة وطلبت منّي أن أشعل لها سيجارة. ضحكت من سخرية القدر الذي حوّل بقعة من سوريا، إلى مكان ممكن أن تتعرض فيه المرأة للجلد إن كانت مدخنة مثلاً. ورغم أن التصوير ممنوع عند اي حاجزعسكري، ويمكن أن يعتقل اي شخص يستخدم موبايله للتصوير، لو كنت أملك الحرية والجرأة، لكنت أمسكت موبايلي وصوّرت كيف ترمي النساء الخمار لحظة تجاوزنا مناطق سيطرة الدواعش. تلك السيدة على المقعد المجاور، وهي تنفث دخان سيجارتها قالت: “اختتقت والله، أشعر وكأن لا هواء لأتنفس. وأنتِ؟ أجبتها بابتسامة حزينة: “حكم القوي على الضعيف”.

عند أول حاجز للنظام بدأت معاناة من نوع آخر، هويات تفتيش، أسئلة وتحقيق: “ما سبب ذهابكم إلى مناطق النظام؟” الأجوبة المعتادة: “عمل، دراسة، قبض رواتب، مشفى”. وعند كل حاجز من الحواجز التي تتجاوز 10 نفس الأسئلة والتحقيق مع سخرية وترهيب مبطن. وعلى الأغلب هويتي التي تحمل قيد محافظة درعا، مهد الثورة السورية، كانت تضعني في محل شبهة بالنسبة لعناصر النظام، أكثر من غيري الذين يحملون قيد مناطق أخرى. وهذه المرة تم إنزالي من السيارة واستجوابي عند مدخل مدينة حلب، لمدة نصف ساعة في غرفة لا يوجد فيها سوى جهاز كمبيوتر، والضابط المحقق الذي لم ينسَ أن يسألني عن مكان إقامتي قبل الزواج. وعدد الأسئلة والتدقيق والتشكيك جعلني أشعر أنه سيسألني إن كنت قد تناولت الإفطار قبل خروجي أم لا. كانت الساعة قرابة التاسعة صباحاً، وانا حتى لحظة جلوسي أمامه أمضيت نحو 6 ساعات في السيارة على طريق السفر، ولم أنم لحظة واحدة. وأمامي يوم عمل طويل وشاق، يمتد حتى الساعة 12 ليلاً. أنقذني تأكده أنني أعمل في مشفى طبي تابع للحكومة، وربما أجوبتي المباشرة والغير مواربة نقلت له شعوري بالثقة وعدم الخوف. ولكنه لم يعلم أن هاتفي الذي لم يطلبه بالصدفة، ويحمل تطبيق الفيس بوك وصفحتي الشخصية التي تحمل اسمي الصريح، كانت تحمل كل كتاباتي المناهضة للنظام والمؤيدة للثورة. خرجت من التحقيق بعد إعادة هويتي لي، وتأكده أن القائمة التي لديه لا تحتوي اسماً مشابهاً لإسمي. عدت إلى لسيارة. دخلنا مدينة حلب وأنا أتنفس الصعداء، وأردد في سرّي: لقد نجوت. نعم لقد نجوت.

هدى أبونبوت )36 عاماً) درست الإعلام في جامعة دمشق، وعملت في المجال الطبي حتى مغادرتها سوريا في ايار/مايو 2015. تقيم في اسطنبول في تركيا وتعمل حالياً في مجال الصحافة