على أطلال بيت الجدّ الذي فقد أحفاده

رجل كبير في السن يجلس في أحد أحياء مدينة زملكا التي تعرضت للقصف المباشر بالصواريخ الكيماوية في عام2013. الصورة بتاريخ 20-08-2017.

رجل كبير في السن يجلس في أحد أحياء مدينة زملكا التي تعرضت للقصف المباشر بالصواريخ الكيماوية في عام2013. الصورة بتاريخ 20-08-2017.

"انفجر مستودع أسلحة في مبنى في سرمدا التي كانت تأوي المدنيين من كل صوب. انفجرت الذخيرة وأودت بحياة 40 شخصاً على الأقل، 10 منهم من أفراد عائلتي. "

عمةٌ لثمانية أطفال كنتُ البارحة. أقول كنتْ فعل ماضٍ، مضى وإياه ستة أطفال هربوا من ظل الموت المتربص بهم وغلّوا بأحضانه. عاشوا تحت سقف واحد وهاجروا كسرب حمام سوياً تاركين خلفهم لا شيء سوى الذكريات.
بعد القصف الذي تعرضت له بلدة التح والمناطق المجاورة لها، قرر إخوتي، أربعتهم أخذ زوجاتهم وأطفالهم مع أمي إلى مدينة سرمدا خوفاً عليهم. عادوا إلى منزلنا ليبقوا مع والدي الذي لطالما رفض فكرة النزوح من البيت رفضاً باتاَ.
وفي تلك الليلة البائسة التي سأحفظ تاريخها ما حييت، ليلة 12 آب/أغسطس 2018، انفجر مستودع أسلحة في مبنى في سرمدا التي كانت تأوي المدنيين من كل صوب. انفجرت الذخيرة وأودت بحياة 40 شخصاً على الأقل، 10 منهم من أفراد عائلتي.
لم تستطع فرق الدفاع المدني انتشال جميع الضحايا في تلك الليلة. فبقي الكثير منهم تحت الأنقاض لليوم التالي. وخرج بعضهم حياً والآخر قضى. أما نحن فقد انهالت علينا مصيبتنا بدفعات. مات من خرج حياً في مشفى باب الهوى وأُخرج البقية من تحت الأنقاض جثثاً مغبرة كقطع أثاث قديمة مهملة .
ولم يتبق منهم سوى أمي وزوجة أخي التي فقدت طفلتها وكُسر عمودها الفقري. نقلوها إلى تركيا للعلاج، وبقي طفلان باتا أيتاماً بدون أخوة وأم. وبالرغم من موت عشرة أفراد من أسرتي وجرح الآخرين إلّا أنني تمالكت نفسي لأظهر قوية أمام من تبقى منهم.
ولكنَ هُدنتي مع نفسي انهارت أمام صمت أحمد ابن أخي الصغير، الذي شهد حادثة موت أمه وأخوته وأولاد عمه أمام عينيه. أقلقني عدم سؤاله عن أمه، في حين كانت حنين الناجية الثانية من الإنفجار لا تكف عن البكاء وطلبِ رؤية أمها بشكل متكرر.
حنين التي راحت تتعهد بأنها ستتوقف عن المشاغبة وستستمع لتوجيهات أمها وستلعب مع أخيها الصغير كي يكف عن البكاء. لم تدر بأن أحمد صمت للأبد وأن أمها رحلت دون رجعة.
أحمد بات في صمت وذهول عميق. كان حاضراً لتفاصيل فقدان أمه وأدرك موتها بالرغم من صغر سنه الذي لا يتجاو6 سنوات. قال لي بأنهم كانوا نائمين في شرفة الغرفة عندما سمعوا صوت إنفجار كبير. حملت أمه أخاه الصغير ووأولاد عمه وركضوا ولكنهم وقعوا في حفرة عميقة.
“ابتلعتهم الحفرة ياعمتي، وبقيت أنا” مزّق قلبي وصفه هذا إرباً. لا أظن أنني سأشفى من هذه القصة. أجهشت بالبكاء إلا أن نظرة عينيه الحادة أوقفتني لأتأمل جبروت الطفولة على جسده الصغير المليء بالكدمات والجروح .
انحنى ظهر جدكم على فراقكم يا أولاد، جدكم الذي ربّى خمسة رجال وست نساء ولم أر في عينيه انهزاماً قط. كان شامخاً على الدوام كشجر السنديان لم ينحن إلا ليلثم جباهكم الباردة ويطبع عليها القبلة الأخيرة ، محتاراً بمن سيبدأ؟ وهل يكفي زاد قبلة واحدة لشوق أبدي الأمد؟
فارغ بيتنا الكبير يا عصافيري الصغار، وساحة اللعب موحشة والريح تعصف بألعابكم الممدة على تراب لا يزال وقع أقدامكم عليه للآن. تتراكضون وتشاغبون كالفراشات. خزانة ملابسكم تنعي ثياب العيد التي لم تطأ أجسادكم إلّا لمرة واحدة.
كانت أمهاتهم تصر على شراء ثياب بألوان موحدة لكل عيد. لكن لم يخطر ببالنا أنكم سترتدون جميعاً الأبيض هذا العيد. لونٌ سرمدي لا يتسخ أبداً ولا تشوبه قذارة الحياة، وستلعبون سوياً هناك في السماء حيث لا ألم ولا فقدان. لمن سأوزع العيدية في صباح العيد؟
من أين لي بصبر يعينني على فراقكم والهدوء ها هنا قاتل. افتقدت طرقات أيديكم الصغيرة على باب غرفتي. افتقدت ازعاجكم. لمَ كففتم عن إزعاجي بهذه الطريقة المفاجئة يا أشقياء؟ كيف سأنهض من عزلتي وأقلّم أظافر الوحش الناقم في داخلي؟ كيف سأخلع الأسود؟ وبصمات أيديكم لا تزال على مرآة غرفتي؟
كيف سأواسي أخي الكبير الذي يتقوقع على نفسه في زاوية سريره لخالي من كل شيء سوى ثياب طفله. يحتضنها ليشم ما تبقى من رائحته ويكلم طيفه بحرقة: “لما ذهبت وأخذت أمك وأختك معك؟ انتبه عليهما يا محمد فانت رجل البيت”.
أتفقد غرف زوجات أخوتي غرفةً غرفة. أفتح الباب وأتنسم رائحة القهوة التي اعتدنا أن نحتسيها صباحاً على صوت فيروز. وأجلس على عتبة الباب ذابلة فلا أحد هنا يدعوني للدخول، ولكن قلبي يحدثني بأنكن تحدقن بي الآن وكأني أسمع صوت ثرثراتكن يقطَع أنين روحي وحسرتي على فقدانكن، يا ليتنا رحلنا معاً فأنياب الوحدة موجعة يا أخوة لم تلدهن أمي .
وأعاود أدراجي إلى غرفتي، أتحاشى النظر إلى أي شيء من الممكن أن يثير ذاكرتي. فالليل طويل وموحش ولا نية للنوم أن يزورني. أرمي بجسدي الضئيل على سريري وأرخي جفني وأعودْ ليوم كان بيتنا “بيت الجد” مكتظاً دائماً ومليئاً بالأطفال، قلما تجده هادئاً، ونادراً ما يُغلق بابه.
كنت أرغب أحياناً بالقليل من الخصوصية والعزلة، فلا مجال لي أن أختلي بنفسي، إلا ويقاطعني أحدهم. كم كنت غبية ؟ كم أنا بحاجة لأنفجر بالبكاء والصراخ في وجه هذا العالم عديم المسؤولية كمستودع الذخيرة ذاك الذي قطع أوردتي وتركني على قيد الحياة.
نور القدور (25 عاماً) تقيم في سراقب وحاصلة على شهادة أدب إنكليزي .