عقبات محتملة في طريق فلسفة المناهج الجديدة وطرائقها
نظرة عن قرب حول المناهج الدراسية الجديدة في سوريا
بقلم: محمد مصطفى الصالح
خضع عشرات آلاف المعلمين والمدرسين في المدارس السورية، خلال الأيام القليلة السابقة، لدورات تدريبية على المناهج الجديدة التي طرحتها وزارة التربية. وعلى دارج عاداتنا السورية، كرر المدربون الحديث عن إرادة قوية من قبل وزير التربية لإنجاح العمل بالمناهج الجديدة كما ربطوا تجديد المناهج المدرسية بمسيرة “التطوير والتحديث”. فهل سيكون مصير “التطوير والتحديث” في قطاع التربية والتعليم مشابهاً لمصيره في بقية القطاعات والميادين؟.
المناهج الجديدة ليست جديدة بالكامل من حيث موضوع المادة التعليمية، لكن طريقة عرضها وإيصالها إلى المتعلمين جديدة على البيئة المدرسية السورية. فوفق التقليد المدرسي القديم كان المعلم أو المدرس هو محور عملية التعليم داخل الغرف الصفية، يشرح ويتحدث ويفسر ويعلق ويعلل، وكأنه يُلقي الدرس على نفسه. ويكون على الطلاب أن يجلسوا في أماكنهم ساكتين ساكنين (متكتفين). وكان الكتاب المدرسي هو المرجعية الوحيدة، بالنسبة للمدرس والطالب، لصحة المعلومات ومعيار صدق وصوابية وسلامة المعلومات والأفكار والمفاهيم. وكانت مهمة المناهج القديمة تكاد تنحصر في قياس قدرة الطالب على الحفظ والاستظهار، في حين تهمل بقية قدراته أو إمكاناته على التحليل والتركيب والنقد واكتشاف العلاقات والمقارنة. وتالياً، يكون الطالب “المجتهد” هو الطالب القادر على صب مئات آلاف الكلمات في الامتحانات النهائية؛ ويُقاس مقدار ما يحصل عليه من درجات بسلم موضوع سلفاً بالاستناد إلى المادة المعروضة في الكتاب المدرسي. فهو يعرف الكثير عن الكثير، لكنه لا يعرف لماذا يعرف ما يعرف، ولا يعرف كيف يوظف ما يعرف، ولا يعرف قيمة ما يعرف؛ والأخطر أنه، في المحصلة، لا يعرف إلا ما يعرف. فتموت مع سني دراسته رغبته في اكتساب معارف ومهارات جديدة.
والعملية التعليمية تتم في البيئة المدرسية التي يعرفها كل السوريين. فالأبنية المدرسية، التي تخلو عمارتها من أية مسحة جمالية، شُيدتْ وفق غايات وظيفية خالصة لتتسع لأكبر عدد ممكن من التلاميذ؛ وتُنفذ عادة، من قبل متعهدين يتعاقدون مع مديريات التربية، بمواصفات الحد الأدنى وتكلفة الحد الأدنى ومواد بناء وتشطيب هي أيضاً، في جودتها، في الحد الأدنى، ورغم ذلك يجد المتعهدون وشركاءهم من الموظفين الحكوميين ما يتقاسمونه من مخصصات للبناء والتشطيب والتجهيز قد تصل، في بعض الأحيان، إلى 50% من التكلفة المخصصة. والغرف الصفية في داخل البناء، رغم سعتها النسبية، تكتظ بثلاثة صفوف من المقاعد، يوجد في كل صف منها ما بين خمس إلى ثمان مقاعد، ولا تترك سوى ممرين يدخل ويخرج عبرهما الطلاب، ويستخدمها المعلم للتحرك داخل الغرفة الصفية لمشاهدة الوظائف ومراقبة الطلاب أثناء المذاكرات الكتابية والامتحانات النهائية. وكل مقعد مخصص لجلوس ثلاثة طلاب؛ ليصل عدد الطلاب في بعض الحالات إلى 55 طالباً في مدارس التعليم الأساسي في بعض مراكز المدن. ولا تبقى من مساحة الغرفة الصفية سوى فسحة صغيرة تقع بين مقاعد الطلاب والسبورة يُوضع فيها كرسي وطاولة صغيرة خاصين بالمعلم. ما سوى ذلك تُنصب مدفأة مازوت في فصل الشتاء وتُوضع سلة مهملات بلاستيكية وراء الباب وتُعلَّق صورة رئيس الجمهورية، باللباس العسكري في بعض الأحيان، على الحائط أعلى السبورة وربما تُعلَّق صورة أخرى له على الحائط المقابل وراء وأعلى صفوف مقاعد الطلاب. ما عدا ذلك لا أثاثاً يُوضع في هذه الغرف، التي ينم كل سنتمتر مربع فيها بالتقشف والصرامة والوظيفية في حدودها الدنيا.
أما باحة المدرسة فتُقسم إلى قمسين مختلفين من حيث مساحتهما ووظيفتهما. ساحة مبلطة واسعة، هي في الآن ذاته ساحة لتريض التلاميذ أثناء فرص الاستراحة بين الدروس ومكان اصفافهم في بداية الدوام وبداية كل حصة درسية وملعب لبعض الألعاب الرياضية، كرة القدم وكرة الطائرة وكرة اليد. ومساحة ترابية تُسوى وتترك على حالها أو تُحوَّل في بعض الأحيان إلى حديقة. وفي زاوية ما من باحة المدرسة تُبنى المراحيض الخاصة بالطلاب والهيئة التدرسية والإدارية.
لقد مضت سنون عديدة على الإغلاق غير الرسمي للمكتبة والمخبر في المدرسة السورية؛ وتحولت الغرفتان المخصصتان لهما إلى مستودعين مهملين مغبرين لكتب وتجهيزات موضوعة فيهما كيفما اتفق أو مضافة لجلوس شلة أحد الأمينين في الفرص أو دروس الفراغ. وتحول موقع أمين المكتبة المدرسية أو أمين المخبر إلى جائزة يتنافس عليها المقبلون على التقاعد أو أصحاب الواسطات القوية. في هذه الأثناء أُدخلت المعلوماتية مادة جديدة على المناهج فوجب تخصيص قاعة أخرى وأمين آخر ومدرس مختص، لكن النتائج، حتى الآن غير مبشرة. فالأمناء الثلاثة يخشون أن يُتلف الطلاب ما أُتمنوا عليه من وتجهيزات وأدوات وكتب لا يمكن تعويضها أو يصعب تعويضها نظراً لنفادها أو لأن مدير التربية يقول: “ما في اعتماد” أو ما في مواد، أو لأن موظفي “الوسائل” في مديريات التربية يريدون رشوة أو عشوة، ولأن المدرسين يستسهلون الدرس النظري، ولأن الطلاب يفضلون الحفظ ما دام هو المقياس الوحيد المؤدي إلى الغاية المرجوة الوحيدة: النجاح.
وإجمالاً، توافرت عوامل عديدة، بعضها في بنية الدرسة السورية- وبعضها مجلوب إليها من المجتمع ليس هنا موضع بحثها- لتُدخل المدرسة السورية في طور أزمة مديدة. جعلت المدرسة في مبناها ومعناها ووظيفتها دون مستوى الحاجات الاجتماعية والدور التطويري المفترض بمدرسة وطنية، يصرف المجتمع عليها الكثير من المال، تقديمه. فبيئة المدرس أفقر، مادياً ومعرفياً، من البيئة خارجها؛ ومنازل التلاميذ تحوي من التجهيزات ووسائل الحصول على المعلومات ما يفوق قدرته المدرسة على توفيره وتوظيفه.
في مقابل ذلك تهدف الفلسفة التربية المُتضمنة في المناهج الدراسية الجديدة إلى قلب المعادلة. تطلب التعلم بديلاً للتعليم. فتجعل المتعلم محور العملية التعليمية، وتُصبح ميوله واتجاهاته وهتماماته هي الدافع المحرك لعملية التعلم. الاستراتيجيات المفترض استخدامها لإحداث المكتسبات المعرفية والمهارية هي المشاركة والتعاون والبحث عن الحلول لقضايا ومشكلات مطروحة. ويفترض بهذه أن تؤدي بالمتعلم لأن يتحول إلى باحث وصاحب رأي، كما يفترض بها أن تنمي لديه روح الفريق والحس بالمسؤولية، وتساعده على مراكمة معارف ومهارات ذات طبيعة عملية تعينه في مواجهة الحياة والدخول المُيَّسر إلى سوق العمل بعد انتهاء فترة التعلم. طبعاً لن يأتي ذلك على حساب المحتوى المعرفي ككم أو كنوع، فالكتاب باقٍ ودور المعلم كذلك. لكن الكتاب تحول إلى مصدر لطرح قضايا ومشكلات يُفترض بها أن تحفز المتعلم على البحث لوضع حلول وإجابات، يلي ذلك محتوى معرفي يُفترض به، ضمناً على ما يبدو، أن يكون معياراً ومحكاً لما طرحه المتعلم من حلول وآراء، حسب طبيعة المادة، للقضايا المعروضة عليه؛ دون أن يعني ذلك أن المحتوى المعرفي قد اكتمل عرضه في الكتاب، بل هو الحد الأدنى الذي يُفترض به أن يحرض المتعلم على طلب المزيد بطرق وصول أخرى. أما المعلم فيتحول إلى “مُيسر” ومراقب وموجه لعملية التعلم، ويُفترض ألّا يُلقى، كما جرت العادة، الأفكار والتفسيرات والشروح على الطلاب، بل يُدير الصف، أي المتعلمين وزمن التعلم، ولا يجوز أن يتجاوز زمن تدخله عشر دقائق من زمن الحصة الدرسية في أحسن الأحوال. في حين يتشارك الطلاب ويتوازعون الأدوار والمسؤوليات لحل ما طُرح عليهم من مشكلات وأسئلة. لكن الدرس لا ينتهي هنا، بل يستمر ليصل إلى أسرة الطالب، إذ يُفترض أن يخرج الطالب بأسئلة أخرى يُجيب عليها بمعونة مراجع ومصادر معلومات غير الكتاب المدرسي والمدرس. وهنا يظهر دور الأسرة كحلقة متممة لعملية التعلم، فتساعد ابناءها في الحصول والوصول إلى المعارف والمعلومات عبر الوسائل المتاحة خارج المدرسة، الأنترنت والمجلات والمكتبات المنزلية والمكتبات العامة والحوار حول هذه المعارف والمعلومات مع الأبوين وغيرهما.
هذه هي الصورة العامة والمثالية للكيفية التي يجب أن يظهر عليها الدرس في المدرسة السورية من الآن وصاعداً. لكن نظرة شاملة إلى العناصر والعوامل المشمولة بعملية التحول من الشكل التقليدي إلى الشكل الجديد للدرس تُظهر أن عقبات يمكن أن تظهر في طريق تطبيق الفلسفة والمناهج التربوية الجديدة، وتالياً تحول دون خروج الدرس التقليدي من مأزق داء اللفظية والمدرسة السورية العامة من أزمة فقدان الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية.
الغرفة الصفية: فلسفة واستراتيجيات المناهج الجديدة تتطلب أن يكون عدد الطلاب محدوداً بحوالي العشرين طالباً أو دون ذلك. كما تتطلب نوعية مقاعد تختلف عما هو معهود في مدارسنا العامة، فالأفضل أن تكون مقاعد فردية لا جماعية. وشكل جلوس التلاميذ التقليدي، الطلاب جميعاً على جهة واحدة يواجهون المعلم والسبورة، لا يتوافق أيضاً مع طرح مضمر في المناهج يُفترض أن يكون أكثر ديمقراطية، والأفضل أن يجلس الطلاب في مقاعد مفردة ويتوزعون في جلوسهم على شكل دائرة أو صندوق مفتوح. إضافة إلى أن الطريقة التشاركية تحتاج إلى توفر حيز فارغ داخل الغرف الصفية يمكِّن الطلاب من التحرك بيسر وحرية أثناء تشكيل المجموعات. كما تحتاج كل غرفة صفية إلى جهاز راشق لعرض محتويات الدرس بطريقة جذابة ومُحفزة لدوافع المتعلم. وهذا يفترض أيضاً وجود حاسب في كل غرفة صفية، أو أن يكون لكل معلم حاسبه الخاص.
المعلم: المعلمون والمدرسون ومساعدو المدرسين هم جميعاً حصيلة النظام التدريسي التقليدي؛ يحملون علقيته وسلوكياته ولن يكون سهلاً تحولهم إلى طريقة جديدة في تقديم دروسهم. إذ تتطلب المناهج الحديثة وفلسفتها منهم مرونة في إدارة الصف، الطلاب والزمن، بأسلوب سلس؛ ومعنى ذلك التخلي عن القيادة الحصرية لمجريات الدرس وترك شيء من زمام المبادرة للمتعلمين. كما تتطلب أن يبقى المدرس في حالة بحث وتمثل دائمين للجديد في ميدان اختصاصه كي ينجح في مواكبة مطالب وطروحات وحلول يُفترض بطلابه وضعها. تُضاف إلى ذلك صعوبة تكيف نسبة لابأس بها منهم، الكهول تحديداً، مع التقنيات الحديثة الواجب استعمالها في الدرس الجديد.
المتعلم: ستتفاوت استجابات الطلاب للقضايا والمشكلات التي تطرحها عليهم المناهج الجديدة نظراً لتفاوت خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. والأرجح أن الفئات الفقيرة والريفية والابناء لوالدين أميين من الطلاب لن تستفيد من دور الأسرة المفترض في إكمال دورة اكتساب المهارات والقيم والمعارف. كما أن النشاطات المفترض بهم تأديتها داخل الصفوف، تشكيل المجموعات وتوزيع الأدوار وغيرها، ستتأثر سلباً بسعة هذه الصفوف وكثرة عددهم وطريقة صف المقاعد فيها. ونتيجة ذلك قد تساهم المناهج الجديدة في زيادة الفجوات في المهارات والمعارف بين ابناء الريف وابناء المدينة وبين الفقراء والأغنياء وبين ابناء المتعلمين وابناء الأميين.
المجتمع: لعل أول صدمة وجهتها المناهج الجديدة لأولياء أمور التلاميذ هي الأسعار العالية للكتب المدرسية؛ فقد قفزت فجأة من بضع مئات من الليرات إلى بضع آلاف. الأمر الذي سيرهق قطاعات واسعة من الفقراء ومحدودي الدخل بأعباء مالية إضافية، إذ يتوقع أن يذهب جزء معتبر من دخولها لشراء الكتب في، خصوصاً إن كان في عائلات هؤلاء أربعة أو خمسة طلاب، مثلاً. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة عدد الأطفال المتسربين من المدرسة، وخصوصاً في الأرياف الفقيرة والمناطق والمدن المهمشة. علاوة على ذلك، تحمل المناهج الجديدة تحدياً ثقافياً يتمثل في تباين الآراء والتفسيرات، في المواد التي يُحتمل فيها وجود تعدد في الآراء والتفسيرات، بتباين مرجعيات الأهل والمدرسين. فإي تفسير يزكيه أب أو مدرس فلسفة لمسألة أصل الوجود مثلاً؟.
يضاف إلى ذلك إشكال خاص بالمواد الاجتماعية والإنسانية لا يُعرف في أية صورة سيتبدى، وتشترك فيه كل العناصر البشرية المعنية بالعملية التعليمية. هذا الإشكال هو التخالف بين مُدخلات يُفترض أنها تعددية ومخرجات يُراد لها أن تكون واحدية. فعلى سبيل المثال، ماذا لو وقع طالب في المرحلة الثانوية، يعمل على كتابة بحث صغير لمادة التاريخ حول واقعة من تاريخ سورية المعاصر، على مادة علمية-في كتاب أو على شبكة الأنترنت- تحمل وجهة نظر نقدية أو محايدة، على الأقل، تجاه هذه الواقعة ذاتها بأسلوب يخالف أو يعارض تقديمها في الكتاب المدرسي، فهل سيقبل الأهل أن يتبنى ابنهما تفسيراً أو تسمية مخالفة لما يراه الكتاب المدرسي والسلطة التي وضعته، وهل سيقبل المدرس أن يحمل تلميذه رأياً أو تفسيراً مخالفاً للخطاب الرسمي السائد؟.
تطرح فلسفة وطرائق المناهج السورية الجديدة تحديات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية لن تتوفر إجابات أولية لها قبل فترة تجريبية تُمتحن فيها قدرة وإرادة الدولة على توفير المستلزمات والتجهيزات المادية المتممة لعمل هذه المناهج وتوفير هامش ديمقراطي يتيح للطلاب فرصة بناء مهارات وقيم وآراء تعكس استقلاليتهم وحريتهم؛ وقدرة المعلمين على التحول إلى أسلوب تفاعلي في التعلم؛ وقدرة المجتمع تقبل التغيير الحاصل بداية ثم التحول إلى دعمه وإنجاحه. فتميمة “التطوير والتحديث” لن تكون بحال كلمة السر السحرية لأزمة عمرها عشرات السنوات من مخاصمة التغيير.