عشر سنوات أتلقى الشتائم عن أبي
عندما أصبحت في المرحلة الإعدادية، دخلت للمرة الأولى إلى المدرسة، وهالني ما قرأت على جدارنها. لم تكن العبارات المكتوبة متعلقة بالعلم أو ما يكتب عادة على جدران المدارس مثل “العلم نور”، أو “المدرسة بيتي الثاني”، أحدى تلك العبارات كانت “الإخوان المسلمون عملاء للرجعية وأدوات الاستعمار!”، فوجئت كثيراً بهذه العبارة، وكل ما أعرفه أن والدي كان قد سجن منذ صغري بتهمة الإخوان المسلمين، ولم يكن أبداً بيدي أن أختار لوالدي الذي لم أره منذ كنت رضيعة اتجاهات سياسية يقبل بها المجتمع في ذلك الوقت.
لم أعر بالاً لهذه العبارات، ولم استفسر عنها. بعد مضي عدة أيام على دخولي المدرسة دخلت بشجار ودي مع إحدى صديقاتي، وفي عجقة الشتائم العفوية المتبادلة، قالت لي “يا بنت الإخونجي”. لم أفهم ماذا قصدت، نسيت الشجار وأصبحت اسألها عن معنى الشتيمة التي أطلقتها، صدمت من تلك الشتيمة. هل هي شتيمة أصلاً؟ لماذا شتمتني بها؟ وهل يجب علي أخجل من نفسي لأن والدي كان ينتمي للإخوان؟
سارعت بهذا الكم الهائل من الأسئلة عند عودتي من المدرسة، ورميت بها إلى أمي، لم تكن إجاباتها مرضية بالنسبة لي. لم تكن الإجابة بأن الإخوان ليسوا عملاء للاستعمار، بل كانت أن والدي بريء من تلك التهمة. توجهت لجدي، لعمي، لأخي الكبير، وكلهم قالوا كما قالت لي أمي، أبي بريء من هذه التهمة. ولكن جدي أضاف بـ”أن الإخوان جيدين، ولكنه أردف قائلا “لا تخبري أحداً بأنني قلت هذا!”.
كبرت ومع الوقت فهمت خوف جدي من كلماته الحسنة عن الإخوان. وفهمت لماذا الكل يشتمني بتلك الشتائم، وفهمت المزاج العام الذي كنا نعيشه، وأحداث الثمانينات، ومع كل هذا لم أكن استطيع الدفاع عن نفسي، ولا حتى رد الشتائم.
خرج والدي من السجن قبل اندلاع الثورة السورية بعشرة أعوام. لم يكن كثير الكلام عن تجربته مع الإخوان، بل كان يتحاشى الكلام عنهم. وأنا لم أكن أضغط عليه كثيراً للحديث عن سجنه، وسبب اعتقاله لمدة عشر سنوات.
توالت الأحداث وقامت الثورة السورية، ومع قيامها أصبحت أكثر جرأة في الدفاع عن أبي، وحتى في الدفاع عن قضايا الإخوان وحقوقهم. دخل الإخوان المسلمون في المعارضة، وشكلوا القسم الكبير من المعارضة عند انطلاقتها، وفي العام الثاني من الثورة كان أبي خارجاً، وعندما سألته إلى أين؟ قال لي “عندي اجتماع” لم أعد اسأله عن اجتماعاتهم، وماذا تقدم للناس والثورة، لأن والدي كان يقول لي بعد كل اجتماع “الاجتماع فاشل” لم نستطع أن نقدم شيئا جديداً.
أردت أن أفخر بأبي الذي قضى عشر سنوات في سجن تدمر بتهمة الإخوان المسلمين، وأنا عشت هذا السنوات أتلقى الشتائم دون أن أستطيع ردها عني وعن أبي. كانت فرصتنا أنا ووالدي هي الثورة، وأن نستطيع أن نسترجع فقط كرامتنا، أمام من شتمنا في عهد “الأسد الأب والأبن” (نسبة إلى الرئيس حافظ الأسد وابنه الذي خلفه في سدّة الرئاسة بشار الأسد). كنت أتمنى أن يقود الإخوان الحراك السياسي السلمي وحتى المسلح. ولكن لم أستطع حتى الآن رد هذه الشتائم، وكل ما قدمه الإخوان المسلمون للثورة هو الحصول على مقاعد أكثر في “الائتلاف”. وكل ما قدموه تعويضا لوالدي عن ال سنوات التي قضاها في سجنه هي “100 دولار أميركي” و”سلة إغاثية”، ولم ينسَ التنظيم أمري، في الفترة الأخيرة أرسلوا لي “عباءة نسائية”.
بعد أربع سنوات من الثورة، خاب ظني وخاب اعتقادي في الإخوان، فلا هم قدموا شيئاً، ولا أنا استطعت رد الشتائم، وأصبحت أقول كما قالت أمي: “أبي بريء من هذه التهمة”.