طلبت من زوجها أن يتزوج بأخرى

أمرأة-تعيش-مع-أطفالها-في-كهف-في-حي-المعادي-بحلب-

أمرأة-تعيش-مع-أطفالها-في-كهف-في-حي-المعادي-بحلب-

"كانت أم أنس خياطة ماهرة، تقصدها نساء مدينة إدلب وأريافها من كل صوب لشدة إتقانها لعملها ولطفها"

وعَدتني أن تحيك ثوب عرسي، بأنامل شابها التشقق والسواد من فرط العمل. كانت امرأة لا تعرف الكلل، تجيد كل شيء.
كانت شعلة من النشاطـ تستمد قوتها من طعم قهوة تعدها لزوجها الذي لم أعرف اسمه إلا عندما سمعت بخبر مقتله. اعتادت وصفه بـ “حبيبي” بعد 25 سنة من الزواج. زوجها الذي لم يعتد أن يغلق قبضة الباب بيده لمرة واحدة. كظلّهِ كانت تودعه وتغلق الباب خلفه.
ما إن يغادر المنزل حتى تبدأ بإعداد الطعام، وترتيب وتنظيف البيت الصغير الذي حاكت لكل شيء فيه زينةز لأسطوانة الغاز فستان أبيض، ولعلبة المناديل زينة منمقة، وللطاولة سجادة مزركشة.
على مائدتها خالفت كل الأنظمة الغذائية التي صممت عليها مسبقاً. كانت تقتحم غرفتي لتنتشلني من عزلتي وتردد على مسامعي: “ساعة الفرح ما بتنعاد”. وكأن قلبها حدثها بزوال النعم فاستغلت كل ثانية من حياتها باحتضان زوجها وولديها أنس ومحمد.
كانت أم أنس خياطة ماهرة، تقصدها نساء مدينة إدلب وأريافها من كل صوب لشدة إتقانها لعملها ولطفها. قلَّما تجد منزلها خالياً من الناس، وإذا ما انتهى وقت عملها تبدأ جاراتها في البناية بالتجمع عندها لاحتساء القهوة.
لقهوة أم أنس مذاقها المميز، لا زال أثر طعمه في فمي للآن. ولكنني اكتشفت مع مرور الوقت أن سر طعم قهوتها لم يكن بسبب لمساتها وتأنّيها بالعمل فحسب، بل لبسمتها وسعادتها كل الفضلِ في إضفاء الجمال على كل ما تفعله. فنجان القهوة الذي أصرّت على إعداده لي يوم ذهبت لأطمئن عليها بعد تعرض بيتها للقصف، كان باهتاً طعمه وزائفة رائحته ومكدر لونه. وكيف لا وقد أعدته بإصبع واحد فقط !
تعرض شارع الثلاثين في مدينة إدلب لغارات عدة. وشاءت الأقدار أن تكون إحداها أمام بناية أم أنس. وبينما كانت تنصت لصوت صفير الإنذار، وتحاول الإتصال بزوجها. انفجر زجاج شرفة غرفتها بسبب الضغط ووقع الهاتف من يدها.
استيقظت أم أنس في المشفى لتبدأ رحلة عذابها بعد فقدانها لجميع أصابع يدها، وتعرضها للكثير من الشظايا التي لم يتمكن الأطباء من إخراج جميعها، فباتت مع الزمن محتلاً غريباً فرض الألم في جسدها للأبد.
وبالرغم من خضوعها للعديد من العمليات المكلفة، وجلسات المعالجة الفيزيائية، إلّا أنّها لم تتمكن من الإعتماد على نفسها في أعمال المنزل لمدة طويلة. مما اضطر زوجها للعمل داخل البيت وخارجه. فما إن يعود من العمل حتى يستبدل قميصه بمريول المطبخ ويبدأ بإعداد الطعام وتنظيف المنزل وغسل الملابس.
لم يكن في البيت سواهما وولدههما الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره. أما ولدهما الأكبر، أنس، فقد انتسب لإحدى فصائل الجيش الحر ونادراً ما كان يعود إلى المنزل.
الجيران بدأوا بالتململ من زيارتها بعد عجزها وطلبها مساعدتهم مراراً. وساد الهدوء في بيتها يوماً بعد يوم. إلّا أن وجود زوجها في حياتها هوّن عليها وملأ قلبها حباً لدرجة أنها طلبت منه الزواج بأخرى لتتمكن من مساعدتهم، والتخفيف من الأعباء المترتبة عليه، ولكنه رفض.
قرّر زوجها الإنتساب لإحدى الفصائل لينتقم ممن دمر حياتهم وسلب زوجته أغلى ما تملك. وبعد 5 أشهر من الرباط على الجبهات غادرها للأبدـ ولم تتمكن من الحصول على جثته حتى، بسبب الحصار الذي تعرضت له المنطقة.
عاد ولدها أنس من المعركة وحيداً، مصراً على الإنتقام لوالده وأمه وحياته التي ضاعت أمام عينيه. و ولدها الثاني محمد اضطر لترك المدرسة والعمل في أحد المطاعم لتأمين معيشتهم التي أصبحت أصعب بكثير، بعد تضرر منزلهم بشدة إثر انفجار سيارة مفخخة في نفس المنطقة .
حجم الدمار الذي لحق ببيتها كان هائلاً، ولكنني لا أظنه يعادل حجم الخراب الذي اجتاح تفاصيل وجهها. الجدران والأبنية ترمم، وخاصة بعد أن أخبرتني بأن إحدى المنظمات أقدمت على ترميم منزلها، ولكن من يستطيع ترميم تصدعات قلبها أو حتى إعادة زوجها أو حتى إصبع من أصابعها؟
نور القدور (25 عاماً) تعيش في سراقب، حاصلة على شهادة أدب إنكليزي.