طرطوس: كيف انتهت ثورة الأزقة المعتمة؟
صادق عبد الرحمن
(طرطوس، سوريا) – طرطوس المدينة الساحلية الهادئة التي استقبلت آلاف النازحين من المدن السورية المختلفة، لم تشهد أزمات خانقة، باستثناء تأثرها بالضائقة الاقتصادية الشاملة في البلاد. تدور جميع المعارك بعيداً عنها، والرصاص الوحيد الذي يُسمع فيها هو الذي يتم إطلاقه في الهواء تشييعاً للضحايا الذين فقدوا أرواحهم وهم يقاتلون إلى جانب النظام.
طرطوس هي الآن من معاقل النظام السوري الأكثر استقراراً، فهي تضم القاعدة البحرية الأساسية للقوات الحكومية، التي تستعملها أيضاً القوات الروسية، حليفة الرئيس بشار الأسد. إلا أن ثمة حراكاً ثورياً انطلق باكراً في هذه المدينة.
خرجت مظاهرتها الأولى من جامع المنصور في حي البرانية في 8 نيسان/ أبريل 2011، لاحقاً تراجع الحراك الثوري ليأخذ شكل مظاهرات صغيرة ومتفرقة، كتابات على الجدران وإلقاء للمنشورات في الطرقات وغيرها، ليذوي هذا الحراك شيئاً فشيئاً. لقد انتهى الحراك السلمي المدني في طرطوس خوفاً من بطش النظام، الذي استفاد من الهواجس الطائفية. بينما اصطدم الناشطون العلويون والمسيحيون بخوف أبناء طوائفهم على وجودهم من المعارضة ذات الطابع السني، وجد الناشطون السنة أن مجتمعهم يخشى التعرض لمذابح طائفية على غرار ما حدث في بانياس في أيار/ مايو.
سليم (اسم مستعار – 25 عاماً) ناشط في “تنسيقية أحرار طرطوس لإسقاط النظام”، طالب في كلية الطب البشري يعيد التذكير بالدور الذي لعبته مدينة بانياس في محافظة طرطوس على صعيد الحراك الشعبي. يقول “إنها واحدة من المدن التي فجرت الثورة السلمية في سوريا، أما أبناء مدينة طرطوس فكانوا ينتظرون ما سيجري بحذر نتيجة التركيبة الطائفية المعقدة”.
تقدم الحراك الثوري في مدن سوريا وأريافها، من مظاهرات صغيرة إلى مظاهرات كبيرة فثورة مسلحة، إلّا إنه انكفأ إلى الأزقة المعتمة في مدينة طرطوس دون أن يسمع أحد عن اشتباكات أو ضحايا، يعتبر سليم أن السبب الرئيسي في ذلك كان “اعتقال جميع الوجوه المعروفة التي شاركت في تظاهرة طرطوس الأولى، وكان بينهم عدد من أعضاء إعلان دمشق، إضافة إلى سقوط أعداد ضخمة من الشهداء في أنحاء البلاد، وتخوف الأهالي من حدوث الأمر نفسه في طرطوس”.
وعن نشاطه ضمن التنسيقية، يقول سليم: “أسسنا تنسيقيتنا في 22 نيسان/ أبريل 2011، وعلى الرغم من توقف المظاهرات الكبيرة التي لم يتجاوز عددها أربع مظاهرات، فقد واصلنا التخطيط بشكل جيد للمظاهرات الطيارة وغيرها من أشكال الحراك الثوري المدني السلمي”.
وإضافة إلى التظاهرات، ألقيت آلاف المنشورات في أزقة طرطوس المعتمة خاصة أثناء أوقات انقطاع التيار الكهربائي. وعلى الرغم من مشاركة عدد من الشبان العلويين والمسيحيين في النشاطات الثورية، يوضح سليم أن أغلب النشاطات كانت تتركز في الأحياء السنية، ويقول: “شارك البعض من أبناء الطوائف الأخرى في تظاهرات طرطوس الكبرى في البداية، ثم شاركوا في النشاطات اللاحقة بشكل لا بأس به، وخاصة حملات إلقاء المناشير في كل شوارع المدينة”.
دخل العشرات من شبان طرطوس إلى المعتقلات، وكانوا يخرجون منها بعد مدد متفاوتة، وأصبحت أجهزة الأمن اللجان الشعبية تعرف معظم الشبان المعارضين في المدينة، ما جعل اعتقالهم أكثر سهولةً، وخاصة في ظل غياب بيئة تحضن الحراك الثوري بشكل متماسك.
وعن عدم انخراط شباب طرطوس بشكل كبير في الحراك الثوري يقول سليم: “كثير من أهالي طرطوس وخاصة من أبناء الطائفة السنية كانوا مع الثورة. طرطوس بدأت بمظاهرات ضخمة ثم هدأت وليس العكس، لم تتراجع الثورة هنا بسبب فشلنا، بل بسبب عنف النظام والشبيحة والخوف من المذابح الطائفية في المدينة”.
ويعتقد سليم بأن الحراك الثوري توقف لأنه لم يعد مفيداً، وخاصة بعد أن فقدت المدينة والمحافظة الآلاف من أبنائها الذين كانوا يقاتلون في صفوف الجيش النظامي، ويضيف “نحن في التنسيقية أنجزنا أعمالاً للتحضير لما بعد الثورة، من بينها أفكار تتعلق بالسلم الأهلي والمصالحة الوطنية في المدينة”.
كمال (اسم مستعار، 23 عاماً) طالب جامعي سبق أن اعتقل بسبب نشاطه في طرطوس وخرج من السجن يقول: “اعتقلت على خلفية تقارير من مخبرين وتعرضت للتعذيب، لكنني لم أتعرض لتعذيب دموي وعنيف كما هو حال الناشطين السنة؛ يأخذ هذا النظام الطائفي بعين الاعتبار أنني ابن لعائلة مسيحية”.
ويلفت كمال إلى استخدام النظام التناقض الطائفي في المدينة لضبطها “يبدو الأمر كما لو أن النظام أوكل لكل طائفة مهمة احتواء ثوارها اجتماعياً، لقد تمكن النظام من السيطرة الكاملة نفسياً وأمنياً على العلويين الذين تتجاوز نسبتهم النصف في المدينة، أما المسيحيون فقد التزموا الحياد في موقفهم الضمني، والتأييد في الموقف العلني لأسباب أمنية وأقلوية”.
ويعتبر كمال أن الأحياء السنية في طرطوس لم تكن حاضناً حقيقياً للثورة، ويرجع ذلك إلى: “قلة عددهم في المدينة، وارتباط المصالح الاقتصادية لوجهائهم بالنظام، والحالة الاقتصادية المتوسطة وفوق المتوسطة لأغلبهم حيث تلعب المسألة الطبقية دوراً كبيراً، ذلك فضلاً عن الترويج لمقولات التهجير الطائفي”.
يتفق جهاد (اسم مستعار) وهو موظف حكومي في الثلاثين من عمره مع ما ذهب إليه كمال، ويضيف: “إن خوف السنة في طرطوس من احتمال تعرضهم لمذابح على يد مجموعات اللجان الشعبية – وأغلب مقاتليها من العلويين – هو السبب الرئيسي لاستمرار الهدوء في المدينة”.
ويعتقد جهاد أن مخاوف السنة لها ما يبررها. يتخوف الناشطون من أن أي حراك ثوري واسع سيؤدي إلى صدامٍ طائفيٍ في المدينة، وربما يؤدي إلى مذابح في الأحياء السنية على غرار تلك التي حدثت في رأس النبع والبيضا في بانياس، هناك حيث دفع المدنيون السنة ثمناً غالياً للحراك الثوري الواسع الذي شهدته تلك المدينة.
يخشى جهاد التعبير عن آرائه أمام أغلب أقربائه وأصدقائه وزملائه في العمل ويقول: “أنا من عائلة علوية فيها يساريون سبق أن دخل بعضهم السجون… أصبح أغلبهم مؤيداً للنظام. لقد شاركت في إلقاء المنشورات في الأحياء العلوية لكن هذا كان مرعباً حقاً، لم نكن نخاف دوريات الأمن ولا عناصر اللجان الشعبية، كنا نعرف كيف نتجنبهم، لكننا كنا نخاف من السكان الذين سيلقون القبض علينا بأنفسهم إذا افتضح أمرنا”.
وعن ىسبب هذا التأييد لبشار الأسد يقول جهاد: “أغلب العلويين يعتقدون أن ثمة ثورة سنية تستهدف إقصاء الرئيس العلوي ومن ثم إقصاء العلويين جميعاً… لكنهم يعتقدون أنه الوحيد الذي يمكن أن يحميهم، ولاحقاً ترسخت هذه القناعة لديهم مع تصاعد التوجه الإسلامي بين صفوف الثوار”.