ضريبة الحلم في سوريا

كل شيء في هذه الحياة عليه ضريبة، هكذا علمتني تجاربي والظروف التي مررت بها. أنا ككل فتاة سورية، دفعتُ عمري ومستقبلي ضريبة الثورة المستمرة منذ ست سنوات حتى هذه اللحظة.

حلمي قبل الثورة كان بسيطاً، إكمال دراستي ودخول الجامعة. همّي في ذاك الوقت كان بقدر عمري، دراستي فقط لا غير. وكوني أصغر إخوتي، كانت أسرتي بجانبي كي أكمل طريقي. لكن في بعض الأحيان تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

هذا ما حصلَ معي…

عندما كنتُ أحضّر لامتحانات شهادة الثانوية العامة، تعرضت أمي قبل خمسة أيام من موعد الإمتحانات لجلطة دماغية. تم نقلها على أثرها إلى مستشفى إدلب الوطني، وهي في حالة غيبوبة. أذكر ذلك اليوم جيداً، أذكره بكل تفاصيله!

بعد يوم من نقل والدتي إلى المستشفى، قررت أن أترك دراستي ومستقبلي جانباً، كي أكون بجانبها. وطلبتُ من شقيقي الأكبر أن يصطحبني معه إلى المستشفى. في بادئ الأمر رفضَ فامتلأت عيناي بالدموع. أصريت وتوسلت إليه، كنت أريد أن أراها وهي تتنفس حتى لو كان ذلك على الأجهزة. وبعد إقناعه وافق أن أذهب معه.

مدينة إدلب تبعد عن منطقتي في كفرنبل 130 كلم، هذه المسافة تستغرق ما يقارب الساعة والنصف. أثناء طريقي إلى إدلب كان قلبي يخفق بسرعة شديدة. الشحوب كان ظاهراُ على وجهي من شدة التعب وقلة النوم. كان خوفي يزداد كلما اقتربت من مدخل إدلب، وأطرافي كانت باردة ترتعش. متلهّفة لأرى أمي، وفي ذات الوقت كان ينتابني شعور، يرفض أن أراها بهذا الوضع.

وصلنا إلى المستشفى ودخلت إلى غرفة العناية المشددة حيثُ أمي. نظرت إليها، اقتربت منها وأمسكت بيدها. كنت أرتعش. أمي شبه ميتة بغيبوبة لا تشعر بي، وأنا أرغب باحتضانها وضمِّها بين ذراعي. لكنني لم أفعل، شُلَّت أطرافي، اكتفيت بالإمساك بيدها فقط. قلت لها: “كيف حالك يا أمي؟” كلماتي تتلعثم وحروفي ترتجف. قال لي أخي: “يجب أن تعودي إلى كفرنبل، ولا تخافي أنا برفقتها”.

عدتُ إلى المنزل وكنت على يقين، بأنّ هذا اليوم سيكون آخر لقاء مع أمي. في ذات الليلة لم أستطع أن أغمض عينَي. أفكاري مشتتة، أمي بالمستشفى في أي لحظة أتلقّى نبأ وفاتها، وامتحاناتي بعد أيام قليلة!

في السادسة صباحاً من يوم السبت 31 أيار/مايو 2008، تلقيت خبر وفاة والدتي عبر اتصال من المستشفى. شعرت بأنَّ عقارب ساعة حياتي توقفت عن الدوران، كنت دائماً أقول بيني وبين نفسي: “لماذا أنا يا

إمراة طاعنة في السنة تلاحق سيارة الأطفاء في حي العامرية لمحالة الحصول على المياه بسبب انقطاعها عن المدينة
إمراة طاعنة في السنة تلاحق سيارة الأطفاء في حي العامرية لمحالة الحصول على المياه بسبب انقطاعها عن المدينة

رب ولماذا الآن؟”. في ذات الوقت، كنتُ أحمد ربي أنَّ ما حصل كان حكمته وقضاءه.

وبدأت ساعة الصفر، امتحاني غداً. كنت لا أعرف ماذا أفعل، كل ما درسته، شعرت أنهُ تاهَ بين همومي ومصيبتي التي حلّت بي. لكن في آخر لحظة وبعد تشجيع أصدقائي والمقرّبين، قررت أن أذهب إلى امتحاني وأحقق رغبة أمي التي كانت تشاركني دائماً حلم دخولي الجامعة. في الصباح الباكر جهّزت نفسي للامتحان، وقرأتُ بعض الآيات القرآنية عن روح والدتي…

وصلت إلى مركز تقديم الإمتحان، ولا أنكر أني كنت خائفة من الفشل. لكن كانت بداخلي قوة كبيرة تدفعني للأمام، وهي ثقتي بأنَّ الله معي في كل خطوة، وبأنَّ دعوات أمي ترافقني. قدّمت كل المواد وأنا على يقين بأنني لن أفشل.

بعد أسبوعين، صدرت نتائج الشهادة العامة ونجحت! شعرت بأنني ملكتُ الدنيا وما فيها… بكيتُ من شدة فرحي! وكان مجموعي نسبةً للظروف التي مررت بها جيداً. بعدها تقدمت للمفاضلة الجامعية، وسجّلت بفرع الحقوق. ثمَّ بدأتُ الدوام في الجامعة.

بعد فترة لا تتجاوز السنة اندلعت الثورة في سوريا، وبدأت المظاهرات تخرج في مدينتي كفرنبل. بعد أشهر، دخل الجيش النظامي مدينتي والبلدات التي تجاورها. وبدأت حملات الإعتقالات ونصب الحواجز على الطرق الرئيسية.

وكَوني شابة من مدينة كفرنبل التي تُسمّى قلعة الثورة، أصبح التنقل إلى جامعتي في حلب شبه انتحار. فالحواجز كانت منصوبة من مدينتي حتى حي حلب الجديدة.

فقررتُ تعليق جامعتي لفصل واحد، ريثما تستقر الأوضاع في مدينتي. على أمل العودة من جديد، وإكمال حلمي وحلم والدتي، فألتحق بفصل دراسي جديد!

شادية تعتاع من كفرنبل. كانت تدرس الحقوق لكنها تركت دراستها بسبب الأوضاع الأمنية في العام 2011. تعمل حالياً في مجال الصحافة.