صيدنايا… سجن التنين الأحمر
A woman shopping for groceries. Photo by: IWPR
حين اعتُقل زوجي (41 عاماً)، أظلمت داري. لم يكن قد انكسر فيها مصباح واحد، لكن انكسرت قلوب مَن فيها. لن أنسى ذلك اليوم ما حييت، يوم أشد ظلمة من ليلٍ شتوي، مع نظام لا يرحم، فاقد للشرعية.
فقد تمَّ اعتقال زوجي بمداهمة عناصر الأمن العسكري للمنزل… اعتقلوه بقسوة منقطعة النظير أمام أطفالي الصغار. لم نكن لنعلم إلى أين يأخذونه، وبأي تهمة يُساق من منزله؟!
صرخت طفلتي بيان: “لا يا بابا لا تروح… لن أسمح لهم أن يأخذوك!”
ببنادق وجِهت إليه، وبالضرب، أُجبِرَ زوجي على عدم المقاومة… ولم يكن أمامه إلا أن فاضت عيناه بالدموع، لكن لم تنزل منها، خوفاً على الأبناء.
كنتُ أعلم أنَّ المشوار طويل…
لم يكن زوجي الوحيد الذي سيق للمعتقل، بل كان هناك حملة اعتقالات واسعة طالت مدينتي إدلب في العام 2007… حيثُ تمَّ اقتياد العديد من المدنيين، الذين نُسبت إليهم تهمة التديُّن.
في تلك الفترة، كان النظام وكعادته، يلجأ لحملة اعتقالات واسعة في جميع أنحاء سوريا، لتشمل تيارات سياسية مختلفة، خوفاً من تمددها أو انتشارها… فيقمع شعبه المُسالم، بحجة هيبة دولة زائفة، تلجم تحركات المدنيين واتجاهاتهم الفكرية.
مضت بضعة أشهر على الإعتقال، من فرع أمني إلى آخر… ليتم في نهاية المطاف محاكمة زوجي ورفاقه، ووضعهم في سجن صيدنايا العسكري على اعتبارهم سجناء رأي.
سجن صيدنايا، السجن العسكري الملقَّب بـِ التنِّين الأحمر. خلف جدرانه العالية ورؤوس جلّاديه الفارغة، يقبعُ سجناء لا حول لهم ولا قوة… تحت أقبيته المظلمة، الداخل مفقود والخارج مولود…
لم يصبر السجناء في صيدنايا على فراق الأهل وظلم سجَّاني بشار… فحصلَ أولُ عصيان طالبوا فيه السماح بزيارة أهاليهم، وبتحسين معاملتهم…
نجحَ العصيان، فكانت أول زيارة أرى فيها زوجي بعد غياب سنة كاملة. لم يكن الحصول على إذن الزيارة من الشرطة العسكرية في منطقة القابون، بالأمر السهل… عناء وذل ومماطلة ووجوه صفراء كالسم، لا ترحم ولا تعرف الإنسانية.
وفي نهاية المطاف، زيارة قصيرة من خلف جدارين من القضبان… الأول أمام السجين، والثاني أمام الزائر.
كلاهما، لا بد لهُ من أن يصرخ بصوتٍ عالٍ ليسمعهُ الآخَر، وسط مراقبة لصيقة لعنصر الأمن. الذي تكون مهمته سماع كل ما يقوله السجين وكل ما يرويه الأهل.
لكن بعد نجاح العصيان، انتقم النظام من السجناء. جاءت مجزرة سجن صيدنايا في 5 تموز/يوليو 2008، وتحوَّلت حياتهم إلى أكثر من مآساة.
في ما بعد مُنعَت الزيارات ونُقل السجناء، إلى سجنٍ آخر… ليتم ترميم السجن أو بالأحرى لجعله أكثر وحشية…
وبعد عودتهم لمنفى صيدنايا، قبعَ زوجي ومَن معه، في أقبية تحت الأرض لا ترى الشمس أو الضوء… ولو كان بمقدور رجال بشار، لحددوا لهم عدد الأنفاس من الهواء.
يقولُ زوجي: “كان يقبع في كل مهجع (غرفة السجن)، وسطياً نحو عشرين سجيناً. لكلٍّ منهم رقمه الخاص… وتُمنَع مناداتهم بأسمائهم خلال التعذيب”.
ويُضيف: “حين يُضرَب السجين، الدماء كانت تتطاير على جدران غرفة التعذيب، فيختفي السمع وتضيع الرؤية… ويبقى على قيد الحياة، مَن كان لهُ القدرة على التحمُّل، أّما مَن لم يستطع، فيمضي شهيداً في الصمت والظلمة… فالموت بالرصاص أو حتى بالقذائف، أرحَم من أن يقبع الشخص في سجن من سجون بشار، وخاصة سجن صيدنايا.”
مع بدء ثورة الحرية في عامها الأول، خرج الأهالي إلى الطرقات مطالبين برفع الظلم والحرية للمعتقلين، وبإسقاط نظام زاد بطشه… فأُلغيَ قانون الطوارئ…
على أثر ذلك، تمَّ تحويل زوجي من محكمة ميدانية كانت قد حكمت عليه بالسجن 6 سنوات، إلى محكمة مدنية أرسلت به ومَن معه، إلى سجن حلب المركزي… ليقضي شهوراً عدة قبل انتهاء محكوميته. وطبعاَ في هذه الحالة، يتحسن وضع السجين قبل الخروج، فيتم تأهيله جسدياً قبلَ الإفراج عنه.
في كانون الثاني/يناير 2012، تمَّ الإفراج عن العديد من سجناء الرأي، ومن بينهم زوجي.
الذي حُمِلَ على الأكتاف، بمظاهرة ليلية خرجت من بوابة مدينة إدلب، ونادت برفع الظلم وبالحرية للمعتقلين، الذين يقبعون في سجون النظام النتنة.
سما بيطار (41 عاماً) من إدلب، حاصلة على الشهادة الثانوية. متزوجة وأم لأربعة أبناء. عملت في جمعيات خيرية لمدة عشر سنوات.