سوريو “بيت الصحفيين” الباريسي: استراحة قلم محارب

الصحفيون السوريون في فرنسا، المثقلون بآلام اللجوء والاعتقال، يحظون بانطلاقة جديدة في مؤسسة “بيت الصحفيين” التي تساعدهم على التأقلم.

[new_royalslider id=”48″]

 آداد كنعان*

(باريس، فرنسا) – رغم أنّ الصحفي السوري محمود الحاج،21 عاماً، غادر بعد انتهاء مدة إقامته في “بيت الصحفيين” قبل أكثر من شهر، إلا أنه ما زال يتردد عليه بين الحين والآخر، ليزور زملاءه السوريين أو ليتفقد بريده.

الشاب الذي يقيم في باريس منذ نحو ثمانية أشهر، حاله كحال عشرات الصحفيين الأجانب، والعديد منهم سوريون، الذين أقاموا لفترة محددة، كل على حدة، في هذا المبنى القديم الواقع في الدائرة 15 جنوبي العاصمة الفرنسية. يستفيد هؤلاء الصحفيين من رعاية “بيت  الصحفيين”، وهي مؤسسة غير حكومية تعنى بالصحفيين اللاجئين وتساعدهم ليحظوا بانطلاقة جديدة.

لعبت الصدفة دورها في أن ألتقي محمود مجدداً، وأن أشاركه الإقامة في “بيت الصحفيين” بعد أن كنت قد تعرّفت إليه في شتاء العام 2012 في بيروت. غادر الحاج الأراضي اللبنانية، كما السورية، مرغماً. في لبنان، تعرّض لمضايقات من قبل عناصر “حزب الله”، كما واجه مشاكل مع السلطات اللبنانية لعدم امتلاكه أوراق شخصية. دفعه ذلك إلى اللجوء إلى منظمة “مراسلون بلا حدود” لمساعدته على الخروج، فتمكن من الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي الفرنسية. أما عن الظروف التي ترك خلالها محمود سوريا، فيتحفظ عن ذكرها.

في الحديث عن فترة إقامته في “بيت الصحفيين”، يقول محمود: “من الجيد أن يكون لديك، لنصف سنة، غرفة مساحتها أربعة أمتار بأربعة أمتار في مكان مثل باريس. ذلك قد يؤهل، ولو مؤقتاً، الغرباء مثلنا لضبط أنفاسهم على إيقاع مدينة صاخبة كهذه”.

تجربتي الشخصية مع اللجوء لم تختلف كثيراً عن تجربة محمود. تركت سوريا في العام 2012 متجهاً إلى بيروت، حيث قضيت عاماً ونيّف. بعدها صدر قرار الأمن العام اللبناني بوجوب مغادرتي البلاد خلال شهرين. دفعني ذلك إلى الإستعانة بالوسيلة نفسها التي لجأ إليها محمود للحصول على تأشيرة دخول إلى فرنسا، لينتهي بي الأمر في “بيت الصحفيين”.

في “بيت الصحفيين”، أو “ملاذهم” كما يحلو للبعض تسميته، يُمنح الصحفي اللاجئ فرصة الإقامة لمدة ستة أشهر، وتتم تغطية جزء من متطلباته الحياتية من طعام ومواصلات، إضافةً إلى مساعدته على إتمام إجراءات الإقامة. وقد أطلقت المؤسسة مؤخراً موقعاً يحمل اسم L’oeil de L’exilé (عين المنفي)، يتيح لهؤلاء الصحفيين نشر كتاباتهم.

استقبلت المؤسسة حتى اليوم ما يقارب 270 صحفياً من نحو 60 بلداً حول العالم، من أفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا، إضافة إلى أقطار عربية كاليمن والسودان وسوريا والعراق وفلسطين. كان من بين هؤلاء 19 صحفياً سورياً في آخر عامين فقط.

كثيرة ومثيرة هي قصص المقيمين هنا، إلا أنّ المرارة هو قاسمها المشترك. تشي نظرات البعض بعذابات الاعتقال الذي تعرضوا له، بينما تعبّر التنهيدات الطويلة التي يطلقها الآخرون أثناء الكلام عن صرخات مكبوتة.

الصحفي والكاتب السوري نارت عبد الكريم، 41 عاماً، انتقل من السلَميّة في محافظة حماة، ليستقر في دمشق في العام 2003. دخل معترك السياسة المناهضة لنظام الرئيس بشار الأسد عبر بوابة المنتديات السياسية والأدبية، وصولاً إلى الانخراط في “إعلان دمشق” العام 2005.

وعندما هبت رياح التغيير على البلاد العربية، وجد نارت الفرصة مؤاتية ليكون جزءاً من حلم طال انتظاره: التغيير في سوريا. انخرط مبكراً في الحراك السِّلمي في دمشق، ليتم اعتقاله من قِبل قوات الأمن السورية في 16 آذار/ مارس 2011، إثر مشاركته في اعتصام أمام مبنى وزارة الداخلية في دمشق.

في المعتقل، التقى نارت بناشطين في المجال السياسي والحقوقي، واتفق معهم على التنسيق للمرحلة القادمة. وبعد إخلاء سبيله، تفرّغ للعمل كمراسل لإحدى القنوات العربية، فكان ذلك سبباً لتتم ملاحقته مجدداً. هكذا بات مطلوباً لعدة جهات أمنية، واعتُقل الكثير من أصدقائه وزملائه في العمل السياسي، إضافة إلى مداهمة أماكن سكنه التي تعددت تجنباً للاعتقال.

وبتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، غادر نارت الأراضي السورية، بطريقة غير شرعية، إلى الأردن، وتابع عمله من هناك عبر التواصل مع الناشطين في الداخل، قبل أن يستقر في “بيت الصحفيين” في باريس أواخر العام 2012.

تعرفتُ إلى نارت عن قرب، ودارت بيننا أحاديث كثيرة تتعلق بالشأن السوري، وبشأن تجربته الشخصية خلال الثورة.

عن العقبات التي تقف في وجه نارت كصحفي وككاتب في فرنسا، وإذا ما كان يستطيع مزاولة عمله من هنا، يقول: “بالدرجة الأولى، المشكلة هي اللغة، ولكنني أتابع عملي من خلال الكتابة لوسائل الإعلام العربية، والعمل على كتاب توثيقي للثورة السورية في الفترة الممتدة بين موت البوعزيزي (المحتج التونسي الذي أحرق نفسه يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 وتوفي في 4 كانون الثاني/ يناير 2011)، وبين الخامس عشر من آذار (مارس 2011)، تاريخ انطلاق الثورة السورية”.

يقول نارت إن فترة إقامته في فرنسا، التي امتدت لنحو سنة ونصف، لا تزال قصيرة، ولذا لا يمكنه الجزم إذا ما سمحت له بتطوير عمله. وعن احتمال عودته إلى دمشق، يقول: “حالياً لا أفكر بالعودة، رغم أنّ وجودي في فرنسا يؤثر سلباً على استطاعتي تغطية مجريات الأحداث على أرض الواقع”.

الكاتب السوري إياد العبد الله، 37 عاماً، انتهى به الأمر أيضاً خارج سوريا بسبب القمع السياسي. يقول إياد إن مشكلته، مثل مشكلة الكثيرين من المثقفين المعارضين، تسبق بدء الثورة، مضيفاً: “معاناتي في سوريا مثل معاناة بقية الكتاب والناشطين، وهي تتلخص في مشكلة النظام مع الثقافة وأهلها، لا سيما من يغرّد خارج سربه”.

التقيت بإياد في باريس أيضاً، ومكّنتني الإقامة معه في المنزل نفسه مدة شهر تقريباً من معرفته بشكل جيد. يغلب عليه طابع المرح، رغم ما يخفيه من قهر نتيجة تعرّضه للملاحقة والاضطهاد من قبل الأجهزة الأمنية السورية، وهو ما منعه من الحديث عن تفاصيل ما جرى معه في سوريا.

له عدّة مؤلفات، منها “أمريكا والإخوان”، يتناول فيه مستقبل الإسلاميين بعد سقوط حكمهم في مصر، وقد صدر مؤخراً، بالاشتراك مع الكاتب حمود حمود. ويعمل حالياً على إنهاء كتاب يتناول وضع الجماعات الإسلامية المنخرطة في النزاع السوري، إضافة إلى عدة أبحاث في مواضيع مختلفة تتعلق بالثورة السورية.

“غادرت سوريا مرغماً، وأتمنى العودة إلى هناك عند أول فرصة تتاح لي”، يقول إياد. وعن وضعه الحالي ونشاطه في فرنسا، يضيف: “العقبات هنا عديدة، وهي أيضاً مشتركة مع معظم السوريين الذين وصلوا حديثاً إلى فرنسا. أهمها ما يتعلق بالسكن؛ شخصياً عانيت كثيراً على هذا الصعيد. أمر آخر لا يقل أهمية هو موضوع اللغة، وهذا عائق كبير أيضاً”.

وبمعرض الحديث عن المشاكل التي واجهها بعد البدء بإجراءات اللجوء في فرنسا، يقول: “لا يتعلق الأمر فقط بموضوع التواصل مع الناس، وإنما أيضاً بتسيير معاملاتك  التي لا بد منها من أجل تأمين وضعك على كافة الصعد. وفي فرنسا تعقيدات كبيرة على هذا المستوى، فحتى تتحرر قليلاً من عبء ارتباطك بالدوائر الرسمية، أمامك عام كامل على الأقل”.

يتحدث إياد عن تجربة الإقامة في “بيت الصحفيين”، قائلاً: “زالت عني إلى حد لا بأس به بعض هذه الأعباء بعد أن سكنت في “بيت الصحفيين”، الذي أعتبره تجربة رائدة”.

* اسم مستعار.