سوريا تحيا بدماء شبابها
An elderly woman rests in the Aleppo neighbourhood of Kallaseh before continuing on her way home.
كثيراً ما شعرنا بالأسر في بلدنا رغم أننا الأحرار في ظل هذه الحرب التي طالما انتظرنا انتصارنا فيها.
داهم الجيش جميع مدن سوريا ليسيطر عليها، ويقمع بوحشيته المعتادة نفوس أبنائها الذين خرجوا ليطالبوا بحريتهم، وأبسط حقوقهم الإنسانية عندما اندلعت الثورة في 15 آذار/مارس 2011. كانت مدينتي كفرنبل من المدن التي سيطر عليها الجيش ونشر حواجزه في كل أرجائها، لتمتزج في هوائها النقي رائحة البارود، الذي كان يُطلق يومياً على المتظاهرين، وعلى كل من يخرج ليلاً من منزله. فبعد غياب الشمس منعونا من مغادرة منازلنا.
ليلة الاثنين بتاريخ 4 حزيران/يونيو 2012، كانت من أهدأ الليالي، لأن الثوار قرروا تحرير المدينة، عمّ الهدوء الشوارع ريثما ينفذون ما خططوا له. حانت الساعة 12 ليلاً، جاء أخي الصغير البالغ من العمر 16 عاما يطرق الباب بحذر. فتحت له فدخل مسرعا إلى خزانته وأخرج قميصه الأسود. حضرت أمي فسألته خائفة متلهفة: “لماذا أنت خارج المنزل حتى هذا الوقت؟ ماذا تفعل؟ ولماذا يبدو عليك التعب؟” أجابها قائلا: “الثوار يخططون الآن لتحرير المدينة وسنبدأ بالحاجز الكبير، علَّ المتواجدين في الحواجز الأخرى يخافون فيسلمون أنفسهم”. سألته قائلة: “وأنت ما دورك بالقصة؟ لن أدعك تخرج فأنت مازلت صغيراً”.، قال لها: “أنا سأذهب لإسعاف من يصاب مع ابن خالتي، وجئت أرتدي قميصي الأسود كي لا أصاب برصاصة قناص، فقط ادعو لي يا أمي”. وخرج مسرعاً دون أن يصغي لصراخها.
لم نذق طعم النوم في تلك الليلة.. الساعة الثانية إلا ربعاً، هرعت أمي إلى صلاة قيام الليل، وبعد أن انتهت جلست تدعو إلى الله، فيما كنت جالسة مع والدي وشقيقتي الصغيرة ننتظر عودة أخي وجميعنا ندعوا الله أن يعيده سالما، إلى أن بدأ أحد الثوار بمناداة عناصر الجيش بمكبرات الصوت “الحاجز محاصر سلّموا أنفسكم”.
لم يكمل كلامه حتى بدأ إطلاق النار. كان كثيفاً وقريباً جداً. استمر أكثر من ساعة، بدأت أصوات الرشاشات تعلو والقذائف تنهال من كل حاجز، وأصوات صراخ النساء والأطفال تعلو فجأة. بدأت السماء تضيء جراء القنابل الضوئية التي أطلقها الجيش حتى يكشف تجمعات الثوار. وبعد كل قذيفة ضوئية كانت تنهال القذائف لتصيب أكبر عدد ممكن من الناس، استمر إطلاق النار على هذه الحال حتى الثالثة والنصف صباحا، وعاد السكون فجأة ونحن في خوف شديد لا يمكن وصفه، وما زلنا ننتظر أي خبر عن أخي.
فجأة رن هاتف المنزل، ركضت أختي الصغيرة وأجابت قائلة وبدون وعي: “أمي تصلي الفجر” وأغلقت السماعة.
خشينا من هذا الاتصال. طلبت أمي الرقم الذي أتصل بنا، كان رقم إحدى المشافي خارج المدينة، حيث قالوا لأمي: “ابنك بخير لكن الشاب الذي يرافقه في حالة خطرة”. صرخت والدتي وهي تبكي وترتجف طالبة من المتصل أن يعطي الهاتف لأخي فتحدثه ليطمئن قلبها، فأكد لنا أن أخي بخير ولكنه بعيد ولا يمكنه التحدث. لكن الشاب على ما يبدو وقد شعر بانهيار والدتي عاود الاتصال بنا بعد دقائق وقال لأمي “خذي ابنك واطمئني أنه بخير”.
سمعنا جميعاً بمكبر الهاتف أخي يبكي، ويتألم ويحاول إخفاء ذلك قائلا “أصبت إصابة خفيفة لا تقلقوا”. طال الحديث بينهما، فردت أمي وسألته “استحلفك بالله كيف صحتك وصحة ابن أختي؟” فأجابها: “أقسم أني بخير”. وبدأ يبكي بحرقة وغصة قائلا: “استشهد محمد”.
كان الخبر كالصاعقة. ذهب والداي إلى بيت خالتي، وبقينا ننتظر حتى طلوع الشمس، أحضروا أخي وكان مصابا بشظية شوهت عنقه، جلست أنا وأختي بالقرب منه وطلبنا أن يحدثنا عما حصل. فبدأ يقصّ علينا ما جرى الليلة الماضية حيث قال: “بعد حصار الحاجز شعروا بالخوف فبدأوا يقصفوننا بالقذائف العنقودية لإصابة أكبر عدد ممكن، كنا ننقل المصابين لمعالجتهم، توقفنا في أحد الأزقة ننتظر سيارة نقل الجرحى، فجأة سقطت قذيفة بالقرب منّا، أصابت جميع الموجودين بشظايا، كانت إصابتي مخيفة لكثرة الدم الذي نزفته، وسرعان ما جاءت سيارة وحملني ابن خالتي محمد ليسعفني، كان يردد قائلا “تماسك عليك أن تقاوم كيف سأواجه خالتي إن أصابك مكروه”، وبعد انطلاق السيارة بنصف ساعة بدأ محمد يسحب أنفاسه بصعوبة ويفقد وعيه، كان يضع رأسي على ساقيه سألته ما بك أجاب بقوة “لا أستطيع التنفس، أحس بصدري يطبق يا ابن خالتي”، وغاب عن وعيه، لم تكن الإصابة بادية عليه لأنه لا آثار للدماء على جسده، وعندما وصلنا المشفى كان قد فارق الحياة، علمت من الطبيب أن شظية صغرة جدا اخترقت جسده لتستقر في قلبه”.
استشهد ابن خالتي وأصيب أخي وكثيرٌ من رفاقهما، وبقي الجيش متمركزاً فترة طويلة في مدينتنا، حتى تم تحريرها بتاريخ 10 أغسطس/آب 2012.
نسرين الأحمد، )33 عاماً) من كفرنبل في ريف ادلب. أم لولدين توقفت عن دراستها الجامعية في السنة ثالثة أدب عربي بسبب الأوضاع الأمنية.