“سعد مات، يا أم سعد”

تاريخ 26 حزيران/يونيو2013، كان يوماً مشؤوماً في حياة مدينة عامودا، وتحديداً حياة أم سعد.

كانت أم سعد في ذاك النهار مع جارتها فوق سطح البيت، تصلهما من بعيد أصوات المظاهرة التي انطلقت من أمام الجامع الكبير. هي إحدى المظاهرات العديدة التي خرجت احتجاجاً على اعتقال ثلاثة نشطاء من المدينة من قبل عناصر وحدات حماية الشعب (ypg) والتي ينظر إليها على أنها تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الموالي لحزب العمال الكردستاني. وترافقت المظاهرات مع إعلان المعتقلين الإضراب عن الطعام.

فجأة وصل إلى مسامع أم سعد وضيفتها، صوت رصاص من بعيد، قالت الجارة التي كانت ترتشف القهوة: “يبدو أن وحدات حماية الشعب تطلق الرصاص لتفريق المتظاهرين”. ردت عليها أم سعد، وهي تضع فنجان قهوتها على الطاولة وصوت الرصاص يتزايد: “لا اعتقد أنها لتفريق المتظاهرين، هل يعقل أن يكونوا قد أفرجوا عن الشباب المعتقلين، وأهلهم يطلقون الرصاص فرحا؟” وما كادت تنهي جملتها حتى قاطعتها ابنتها وهي تنادي: “أمي، والدي على الهاتف ويود محادثتكِ”.

وفيما كانت تهم بالنزول لفت نظرها وهج أحمر، غطّى سماء عامودا مع صوت قوي. قالت أم سعد لنفسها وهي تنزل السلالم: “اعتقد أن الصوت من عناصر وحدات حماية الشعب”. رفعت سماعة الهاتف، وكانت جارتها قد وصلت خلفها إلى باب الغرفة تراقبها بعين متلهفة، جاء صوت زوجها هادئاً: “أم سعد تعالي إلى المشفى، سعد مصاب”.

حين بلغتها هذه الكلمات، أصابها الجمود للحظات، وأحست بدموع  باردة  تنهمر من عينيها. ما كان من الجارة بعدما علمت بالحدث، إلّا أن سحبتها من كتفها قائلة: “هيا بنا إلى المشفى”. نزلتا إلى الشارع تبحثان عمّن يمكن أن يقود سيارة أبو سعد، بدأت الصراخ: “من يعرف قيادة السيارة؟ أرجوكم ابني مصاب بالمشفى…”

كان الشارع فارغاً، بدأت دقات قلبها بالتسارع وهي تصرخ… إلى أن خرج شاب من أحد المنازل، وأبدى استعداده لقيادة السيارة ونقلهما… وصلت أم سعد وجارتها إلى المشفى، كان حشد من الأهالي أمام المشفى. وكان هناك جريح في سيارة إسعاف، يصرخ أهله بوجه البعض من عناصر وحدات حماية الشعب، يطالبون بنقله إلى مشفى القامشلي لحراجة وضعه. أما العناصر فيمنعونهم من المغادرة متذرعين بالأوامر.

اندفعت أم سعد إلى داخل المشفى، وقفت أمام باب الإسعاف صامتة… رأت ابنها ممداً على سرير الإسعاف من دون حراك. حاولت أن تجرّ قدمها، ولكنها أحست بثقل في قدميها. تقدّم أبو سعد باتجاهها. عيناه تغرقان بالدموع، قال بصوت مرتجف: “سعد مات يا أم سعد”.

تمالكت نفسها وتقدمت باتجاه ابنها الذي كان مغطى بالدماء، رمت بنفسها على صدره على أمل أن تحسّ بدقّات قلبه، ولكنه كان باردا كقطعة ثلج… ساندها بعض الشبان وأخرجوها من الغرفة، ومئات الأسئلة تدور في رأسها كيف حدث ذلك؟ سعد كان ذاهباً إلى دورة علم الأحياء، هو طالب بكالوريا لماذا أطلقوا الرصاص عليه؟

وصلت إلى البيت، وجدت بعض النسوة بانتظارها، وما إن شاهدنها حتى بدأن بالصراخ و البكاء. ولكن أم سعد بكت بصمت وهي تنظر إلى النسوة اللاتي كن يتحدثن بأن سعد انضم للمظاهرة التي لم تستجب لنداءات عناصر وحدات حماية الشعب والقناصة المنتشرين فوق الأسطح بوقف المظاهرة. كان سعد يشارك في المظاهرات كغيره من الشباب، يهتف كأمثاله. ولم يكن يحمل السلاح.

وصل إلى مسمعها أن جثمان ولدها قد وصل الى الجامع وأنه تم فرض حظر للتجوال، ولن يسمحوا لأهالي الشهداء الستة الذين سقطوا برصاص وحدات حماية الشعب بدفنهم في عامودا. انتفضت أم سعد وصرخت بغضب: من قال ذلك؟ أنا من عامودا وسأدفن ابني في عامودا…

كانت تراقب من النافذة الجامع المقابل لبيتها حيث سيقضي ابنها ليلته الأخيرة، ومئات الخواطر تدور في ذاكرتها. سعد ابنها البكر، كان سيقدم امتحانات الشهادة الثانوية كباقي رفاقه… كانت تتخيله قادما من الجامعة، وتخيلت ليلة زفافه وهو جالس بجانب عروسه… ولكن حلمها بابنها انتهى برصاصة اخترقت صدره وخرجت من كتفه.

أخبروها أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي منع الناس من الذهاب إلى الجامع للصلاة على الشهداء، أو إقامة مجالس عزاء لهم، فدفنت إبنها بصمت. مرت سنتان على موت سعد، وأم سعد تزور قبره كل يوم، وتحضن شاهدة قبره وتقول له: “أرى صورتك في وجه كل شاب من عامودا”.

فيان محمد (35 عاماً) من مدينة القامشلي. درست الاعلام في جامعة دمشق قسم التعليم المفتوح. لم تستطع الدارسة في الجامعات السورية الحكومية كونها لا تملك الجنسية السورية، فالدولة تعتبرها من أجانب الحسكة.