زيارة إلى السويداء: غيفارا… مين؟

ورد العاصي

في منتصف تشرين الأول/أكتوبر عدت إلى السويداء، إلى آخر منزلٍ كنت في ضيافته قبل عامين تقريباً. الشوارع في هذه القرية السمراء المبنية من الحجر البركاني الأسود هادئة والناس يرحبون بالغرباء ولكن، على غير عادتهم، يفعلون ذلك بقلق. هذا حال السوريين عموماً الآن.

إستضافني صديقي حسين في بيته. أعرف حسين من أيام الدراسة الجامعية، منذ أربعة عشر عاماً.

مظاهرة في السويداء في حزيران/يونيو 2012 – يوتيوب

أخذني حسين في جولة لأتعرف أكثر على واقع السويداء أثناء الثورة. رأيت أم حسين، أم صديقي، تلك المرأة السبعينية الرقيقة بيديها النحيلتين. كانت تحشو المكدوس وتطحن القمح وغيره لتصنع المؤن للجيران والأصدقاء. تفتخر بعملها وتحبه وما زالت تقوم به. ولكنها اليوم تزيد الكميات لتهرّبها إلى الثوار والنازحين، كما تقول. أصبحت أم حسين ممولاً صغيراً للكثير من العوائل. تحدثت معها، سألتها عن ظروف الحياة في السويداء:

“كل الضيعة قاطعتنا أنا والأولاد لأنو نحنا معارضين، ما بعرف شو بدي إحكيلك. أنا صرلي 43 سنة بعمل مونة وأكل للضيعة والضيع القريبة، وهذا البيت كل يوم كانوا نسوان الضيعة يجتمعوا فيه، وهلق ما عاد حدا يزورنا تقريباً غير الناس المقربين. كلهم صاروا يخافوا منا.”

وتستطرد أم حسين قائلة إن أحداً لم يتعرض لأولادها بسوء حتى الآن، لكنها رغم ذلك حزينة بسبب المقاطعة الإجتماعية: “أنا ربيت أولادي ليكونوا أحرار ويعملوا اللي يشوفوه صح. وأنا هلق صرت أعمل مونة للنازحين وللشباب اللي بدرعا ونهربو تهريب، وكأنو سلاح، حتى الأكل صار تهريب!” تقول أم حسين إن لا أحداً يشك فيها لأن كل أهل المنطقة يعرفون أن إنتاج المونة عملها: “بتمنى هالناس الموالية توعى إنو إلنا الحق إنا نقول حرية ونحكي بصوت عالي.”

إنقطع الحديث لأنها بدأت بالبكاء فجأة وتركت المكان.

إنطلقنا بعدها لزيارة أبو ريما صديق حسين وهو رجل أربعيني لا يجرؤ على إعلان معارضته للنظام. أخوه معتقل سابق بسبب مواقفه المعارضة. أبو ريما رجل ممتلئ، حركاته سريعة، حتى كلامه سريع. حدثني بعفوية وهو يضحك عن زوجته الموالية للنظام. قال وهو يتلفت:

“أنا ما بسترجي أضع عندي قناتي الجزيرة والعربية. تخيل إنك بتشوف الجزيرة ببعض الضيع والبيوت وكأنك عم تعمل شي خطير. ونص الناس بتعمل هالشي الخطير بالسر. ومرتي كل ما بدي أقول رأيي بالنظام بتعصب وكأني عم سب أبوها وتهددني إما بالترك أو إنها تعمل أكتر. تخوفني من أنها ممكن تخبّر الأمن. أنا واثق من أنها ما رح تسلمني للأمن بس يمكن تتركني.”

يستطرد أبو ريما قائلاً إن الناس في السويداء يخافون من دعايات النظام الطائفية بأن الثورة إسلامية سنية وهدفها إقامة دولة إسلامية تهدد الاقليات. ويلاحظ أبو ريما أن معظم أهل السويداء يقاطعون الشخص الذي “يطلع عن مفهوم الجماعة.” ويتساءل إن أهل مدينته ربما يكونون خائفين من صوت الفرد ويستطرد قائلاً: “لأنو ما عم يقدر يكون كل واحد إلو صوته الخاص، وبيعتقدوا إنو صوتك مو إلك، صوتك للكل بمجرد إنك محسوب ع الكل، وما عم يقدروا يصدقوا إنو الإختلاف بالرأي السياسي هو حسنة مو سيئة ومو جريمة ومو خيانة. بيحبوا يسمعوا رأيك وبيتفاعلوا معو بس بيدافعوا عن الرأي الآخر مشان ما يرتكبوا معصية الإندساس.”

مشينا مئات الأمتار ونحن صامتين. كان هدوء المكان يعطيني فرصة للتفكير والتأمل، وهذا ما كان ينقصني، وخصوصاً أن دمشق فقدت هذا الهدوء في الأشهر الأخيرة بسبب الطيران المتواصل والقصف المستمر، ورشقات الرصاص الدائمة.

إنطباعي هو أن السويداء تعيش حالة صراع، لا تستطيع أن تقرر بعد إذا كانت مع الثورة أم لا. يخاف سكان المدينة من بطش النظام ولكن من جهة أخرى لم يؤذوا أهالي درعا عند نزوحهم إلى السويداء واستقبلوهم برحابة صدر. إنتماء أغلبية سكان المدينة إلى طائفة الموحدين الدروز يجعلهم كأي مجموعة أو عشيرة تخاف على كتلتها، يتجنبون أذية الغير وأذية بعضهم. وهذا ما جعل التفاعل مع الحراك الثوري ضعيفاً. فالكل، رغم رفضه أو موالاته النظام، يعتبر الطائفة أكبر من كل شيء.

وصلنا إلى بيت صديقي حسين. غرفته ما زالت على حالها تقريباً، ما عدا اختفاء صورة تشي غيفارا. سألته عن سبب اختفاء الصورة. هذا السؤال فجّر حديثاً طويلاً مفعماً بالقوة والدفء والحزن المكتوم والكثير من الصدق:

“هلق عم تسألني عن غيفارا؟ يا زلمة صار كل الشعب غيفارا. الشعب كتير ضحّى، وبقصد بكل شي، مشان كلمة حرية. ما عم يعرف بمأساتو غير هو، بس النازح، وبس القاتل يعرف معنى القتل، وبس الجريح بيعرف شو عم بيحس. لهلق كتير ناس بسوريا نفسها بس تتعاطف وتحاول تحس. لأنو أنت كمان من كتر الموت ما عاد تقدر تفهم كل شي، وعلى قد ما شفت دمار ما رح تتخيل غير الحرية، ما في حدى ما بدو الحرية. بس كمان النار ما بتشعل الغابة بلحظة وحدة، وبتمنى إنو الناس تقدر تفهم إنو السويدا رح تجيها النار ولو متأخرة. والشعب السوري بيعرف طريقه. ليش بدي غيفارا بالغرفة؟ على شو؟”

ويستطرد حسين قائلاً إنه بسبب زيارتي له ستنشأ الكثير من الإشاعات والحكايات عنه في البلدة: “ممكن يصل خيال الناس إني عم بعمل حزب أو عم باخذ أوامر من حدى. ولكن لا تصدق إنو سويدا كلها موالية. ما عم دافع، بس بدي قلك إنو المعارضين موجودين ونسبتهم كبيرة.”

لم نتكلم بعدها عن الثورة، وإنما عن أيام الدراسة في دمشق؛ عن العجوز الذي كان يجلس عند باب الكلية. سألني عنه، فقلت له أنه كان منذ شهرين تقريباً ما يزال يبيع البسكوت والأقلام ولكن بعد التفجير الأخير على اوتستراد المزة اختفى. لم يمت بالتفجير، ولكنه لم يعد يأتي. تذكرنا  بيت حسين القديم في باب شرقي، والكثير من التفاصيل عن دمشق، وعن أول زيارة لنا لبيت صديقة في حمص.

 تناولنا العشاء مرتين ثم تركني أغفو دون أن يكلمني.