زمــــــــلــــكا: الحنين إلى مدينة
رزان زيتونة
تعود سلمى كل يوم من مدينة زملكا غاضبة ومزاجها كئيب ومشاكس. سلمى صبية من سكان زملكا، نزحت عنها مع العائلة منذ أشهر. في هذه الأيام تذهب مع عدد من أصدقائها للقيام ببعض أعمال “التنظيف” ومساعدة من تبقى من الأهالي، أو من بدؤوا بالعودة إليها، على استعادة شيء من حياتهم الطبيعية في المدينة المنكوبة.
تقول سلمى إن روائح كريهة جداً تنبعث في أنحاء المدينة، ولا أحد يعلم مصدرها. الكهرباء والماء والإتصالات لاتزال مقطوعة. وحتى اللحظة لا تزال تصادف أشلاء جثامين في هذا المكان أو ذاك أثناء عمليات التنظيف!
بعض النكبات تمر بهدوء مرير، لا تلقى صفحات كافية تندب أحزانها، ولا من يبكيها كما يجب.
زملكا شهدت خلال أشهر بعضاً من أجمل مظاهرات الغوطة الشرقية. كانت تستقطب المتظاهرين من أنحاء دمشق وريفها كافة. في زملكا أيضاً أقيمت “احتفالات” أعياد الميلاد ورأس السنة 2012، بحضور نشطاء من مختلف الطوائف، وقاد بابا نويل مظاهراتها يومها.
ذلك كله يبدو بعيداً الآن بعد نكبتها الأخيرة التي بدأت فصولها أواخر شهر كانون الثاني من هذا العام.
يومها أعادت قوات النظام احتلال المدينة وتقطيع أوصالها بالحواجز التي مارست الإذلال والإعتقال والقتل بحق السكان. بل تجاوز ذلك إلى “التشبيح” بمعناه الواسع؛ أخذ الرهائن من المدنيين وطلب الفدية عنهم. “كالمافيا كانوا، كالسرطان في قلب الشوارع،” يصفهم عمر.
حتى صالات الأفراح لم تسلم من جبروتهم. جرى احتلال صالة أفراح “زينو” وتحويلها إلى ثكنة أمنية وعسكرية. زغاريد النساء والتمختر بثياب السهرة والتهامس حول جمال قوام الصبايا، حلت مكانه صيحات تعذيب المعتقلين والتنكيل بالأجساد المقيّدة.
وبلغت الأمور ذروتها بمجزرة الثلاثين من حزيران/يونيو، التي ذهب ضحيتها أكثر من مئة شهيد في دقائق قليلة بعد تفجير سيارة مفخخة وسط تشييع حاشد.
لم تهدأ المقاومة في المدينة خلال ذلك. فجرى ضرب حاجز زملكا البلد وتحرير المعتقلين في صالة زينو. بعد يومين دخلت قوات النظام من جهة جسر زملكا إلى الساحة لسحب الحاجز المحاصر. وفي طريقها إلى هناك، أطلقت القذائف على المحال التجارية، حرقت المنازل بعد سرقة محتوياتها، وتركت الشارع العام في المدينة منهوباً ومدمراً.
أنشئ حاجز جديد عند مدخل البلدة مزود بقناص يصطاد الناس من على مئذنة جامع العدنان، وعاودت الحواجز المختلفة عمليات القصف والإعتقال العشوائي والتنكيل اليومي.
قررت كتائب الجيش الحر من جديد ضرب الحواجز، وصباح الثلاثين من تموز/يوليو، كانت تسمع التكبيرات في سماء المدينة بالترافق مع عملية تحرير الحواجز التي ردت بدورها بقصف عنيف جداً أدى إلى وقوع عشرات الشهداء والجرحى.
“كانت سيارات الجيش الحر تروح جيئةً وذهاباً لانتشال جثامين الشهداء. كنا نسمع صوت القذيفة وقت إطلاقها ولدينا بضع ثوان للإنبطاح قبل ارتطامها بمكان ما. لكن الأسوأ حين تكون القذيفة قريبة، حيث لا نسمع إلا صوت ارتطامها وتناثر شظاياها ودقات قلوبنا المذعورة،” يقول عمر.
“في الدقائق القليلة التي كان يهدأ فيها القصف، كنا نتهامس: هديت ماهيك؟ وما أن نكمل العبارة حتى تأتي قذيفة لتكذّب الخبر. كنا نقف في الصف للدخول إلى الحمام، مرة تلو الأخرى! يتهافت الخوف على قلوبنا من قذيفة تصيبنا أو مداهمة تودي بنا ذبحاً على يد الشبيحة.”
قوات النظام، وفي عمليات “التطهير” كما تصفها، لا تكتفي باستهداف مواقع الجيش الحر فحسب. المدينة بأكملها، بمدنييها وعمرانها وخدماتها وبنيتها التحتية وأسواقها، تشكل هدفاً. إقتحام البيوت وذبح الأهالي بدم بارد، هو أيضاً جزء لا يتجزأ من العملية.
كان دماراً لا يوصف. جثث القتلى متناثرة هنا وهناك. هدمت منازل، بعد سرقتها، وتحولت أبنية إلى ركام.
زملكا حرة. عناصر الحواجز هربت، وكذلك جميع مظاهر الحياة. “تحررت زملكا من كل شيء، من الحواجز والناس، إندحر جيش النظام واندحر الشعب،” يقول عمر.
تلك “الحرية” المنقوصة والجريحة، لم تدم طويلاً. فما هي إلا أسابيع حتى عادت قوات النظام بتعزيزات أكبر، إحتلت المدينة من جديد واعتقلت أعداداً كبيرة من الشبان لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اللحظة، بعد أن جرى تجميعهم في الساحة العامة مكبلين في مشهد يذكر بساحة البيضا.
عقب النكبة الأخيرة، تعالت بعض الأصوات تتوجه ببعض اللوم إلى الجيش الحر. كتب أحد نشطاء زملكا على صفحته على فيسبوك يتساءل حول جدوى عملية تحرير الحواجز، التي يرى أنها استدعت دمار المدينة ونزوح أهلها.
مؤخراً، أصبحت كل مدينة تتعرض للإستباحة، تعلو فيها الأصوات التي تلقي بجزء من الملامة على الجيش الحر، الذي يخوض معارك غير متكافئة من داخل المدن، ومن غير حساب لقدرته على المقاومة بسبب اختلال ميزان القوى.
وتحاجج أصوات أخرى بأنه لا خيارات متاحة: الثورة تعسكرت، وأصبحت تجمعات المظاهرات تستهدف بالقذائف كتجمعات الجيش الحر؛ وأنه لا يمكن إلقاء اللوم على الشبان الذين يضحون بحياتهم من أجل تحرير مناطقهم رغم معرفتهم بضعف إمكاناتهم العسكرية.
لا أحد على وجه اليقين يعلم أين يكمن الصواب وأين يقع الخطأ الذي ينبغي تجنبه في المستقبل.
اليقين الوحيد هو أنّ الجميع، حتى من منتقدي الجيش الحر، يستحضرون لحظات المظاهرات العارمة في زملكا المحررة بكثير من الحنين، ولا يكفون عن انتظار أن تتحول “مدينة الأشباح الحالية التي يحرسها الشبيحة” من جديد، إلى المدينة المحررة التي كانتها ذات يوم قبل أشهر، عامرة بالحرية والمحبة.