رفضَ أن يقول “بشار” فاعتقلوه!
يوم الأحد 31 تموز/يوليو 2011، ها نحنُ نُحضِّر أنفسنا، كي نستقبل غداً شهرَ رمضان. فيما ولدي رضوان يأمل، أن تحسم الثورة الوضع في هذا الشهر الفضيل، ويسقط نظام بشار الأسد…
أذكر يومها كيف انقطعت الاتصالات فجأة … شعرتُ بخوفٍ، وطلبتُ لطفَ الله! لأنّ ذلك يعني أن مصيبة ما ستحدث. فهذا أسلوب النظام، يقطع الإتصالات قبل كل مداهمة…
رضوان، كان قد ذهبَ إلى المعسكر الجامعي في دمشق… بعدما طلبتُ منهُ عدم الخروج بمظاهرات، وكان سبق أن نجا من الاعتقال في ظاهرات سابقة… ولدي الصغير كان خارج المنزل، يلعب مع رفاقه، غير مبالٍ بشيء!
حين انقطعت الإتصالات، أسرعتُ للبحث عن إبني الصغير… وعدت به إلى البيت…بقينا في خوفٍ شديد، أنا وابنتي وولدي…
دُقَّ الجرس، فأسرعتُ وفتحتُ الباب، وإذ بصديق إبني الأكبر رضوان، يُريد رقم هاتف والده. خفتُ كثيراً لطلبه، وقلتُ لهُ: “رضوان لم يأتِ بعد، وأنا قلقة جداً عليه! هل تعرف شيئاً عنهُ؟” فأجابني: “هو بخير… كنا معاً، وسيعود بعد قليل”
ودُقَّ الجرس ثانيةً وثالثةً… وكانوا رفاق رضوان، يسألون عنه. وفي كلِّ مرة كان السائل يعدني بأن يعود ليطمئنني، ويذهب ولا يعود! صار بي يقين أنَّ رضوان بخطر! فإن كان بخير، لِمَ يُلِحُّ رفاقه بالسؤال عنه هكذا؟!
قررتُ النزول وولدي الصغير إلى الشام لأتفقد رضوان… وأُحاول قبل ذلك أن أتصل به، فلا اتصالات عندنا!
كنت على يقين أن جميعهم يعرفون ما به، ويُخفونَ ذلك عَني! ثمَّ نادتني إبنة الجيران، وقالت لي أنَّ لديها تغطية للإتصال من هاتفها… فأسرعتُ وحاولت الاتصال بإبني. وحصل ما توقعتهُ… وجدتُ أنَّ جواله خارج التغطية!
كدتُ أن أنهار… فاتصلت بوالده… لكنهُ قالَ لي: “رضوان في السجن!” سألته: “ماذا… ماذا تقول؟!”
عندها شعرتُ بأنَّ فضاءً أبيضاً خالٍ من الأشخاص والأشياء يُحيطني… وقدماي لم تعودا قادرتين على حملي… وعيناي تنهمران بشلالات الدموع حتى باتت تسيل بغزارة من أسفل ذقني… أنفي صارَ ينزفُ دماً، ولساني لا ينطق سوى بثلاث كلمات: “يا قلبي… يا عمري… يا إبني”
وما إن عادَ إلي الوعي، وتمالكتُ نفسي، حتى أخذتُ أبحث عمَّن يساعدني في إخراج إبني من السجن! وأتضرعُّ لله أن يرده لي سالماً… طيلة خمسة أيام من رمضان، أُحضِّرُ طعامَ الإفطار ثمَّ أجلسُ وانتظره…كان كلي أمل بأنّ رضوان سيُفطِر معنا…
إلى أن جاء يوم الجمعة 5 آب/أغسطس 2011… رُفِعَ أذان المغرب، ولم يأتِ رضوان… فأكلتُ لُقيمات خجولة يُقمن صلبي بعد كأسِ الماء… وخرجتُ إلى صلاة التراويح داعيةً الله أن أخرج من المسجد، وأجدُ في المنزل إبني!
عدتُ إلى المنزل والأمل بعودته لا يفارقني.
البيت هادئ… فجأة خرق جرس الباب الهدوء، ليُخرجني وإبنتي من الخمول، الذي أصابنا منذُ اعتقال ولدي… تسابقنا إلى الباب… سبقَتني … نظرتْ عبر العدسة المثبتة في الباب، ولم تحرِّك ساكناً، لو بكلمة!
سألتُها: مَن؟! رضوان؟! لم أنتظر جوابها… شدَدتُها بقوة، ونظرتُ بنفسي…
إنهُ رضوان!
صرختُ بلا وعي… وفتحتُ الباب…. “يا عمري إدخلْ!”
كان متصلباً وينظر بالأرض… ما إن ترى وجههُ، حتى تلاحظ عليه الحزن والأسى!
فمددتُ يدي: “إدخل يا ولدي” شددته إلي وحضنته، وأنا أشعر أني أحضن العالم بأسره!
فابتعدَ ووقفَ متصلباً… وأخذَ يبكي…
“يا إلهي ماذا فعلوا بك يا قطعة من قلبي؟!”
وعدتُ وضممتهُ إلى صدري، فلعلّي أعوّضه ما عاناه داخل السجن… وأنا أحمد الله، وأكاد لا أصدّق أنه بين ذراعي حيّاً يُرزَق، ولم يخرج بعاهة!
بعدَ دقائق، عادَ إلى طبيعته، وطلب من أخيه الجوَّال ليتصل بأهالي رفاقه المعتقلين، ليطمئنهم…
لكنّ ملامح وجهه كانت تقول، أنهم ليسوا بخير، فالعذاب الذي يُمارَس عليهم سيُخرجهم، إما جسداً بلا روح أو بِعاهة دائمة…
جلس وحدّثنا عمّا حصلَ معهُ…
كان في اليوم الثاني في معسكرالتدريب الجامعي في جامعته بدمشق… وأثناء الإصطفاف الصباحي، غضبَ الملازم من الطلاب، فهو يريدهم أن يرددوا مع كل حركة من حركات الإصطفاف كلمة “بشار”!
صمتَ لثوانٍ، وكأنَّ قهر الدنيا كلها تجمَّعَ في تقاطيع وجهه، وأكملَ لي ما حصل:
“البعض منا رفضَ أن يقول كلمة “بشار”، والبعض كان يقولها على استحياء… خوفاً! فجُنَّ جنون الضابط، وأخذَ يشتم الذات الإلهية!
غضبتُ يا أُمي، ولم أستطع السكوت… قلتُ لهُ: لِمَ تكفر؟ ولِمَ علينا في الإصطفاف أن نقول (بشار)؟!”
أكملَ لي رضوان ماذا حصل، وقال:
“جاءَ العقيد وأخذني جانباً وسألني: يا بني ماذا تريدون؟
قلتُ لهُ أننا نريد فقط الحرية والكرامة، ومحاسبة مَن أخطأ… فهزَّ برأسه وقالَ لي: معكم حق…
أُعجبت يا أمي لكلام العقيد، وظننتُ به خيراً!
لكن، أثناء نقاشنا معهُ، جاءت سيارة الأمن واقتحمت الحرم الجامعي… لتأخذني مع خمسة من رفاقي إلى الأمن العام العسكري، بطريقة مُذلّة!”
وتابع رضوان حديثة وأنا أبكي:
“وجدنا أنفسنا بعدها في غرفة، مساحتها متر بمترين، حشرنا فيها حشراً مع آخرين! وقضيتُ يا أمي ليلة كاملة على قدمٍ واحدة، فلا مكان لقدَمي الثانية”.
أنهى رضوان حديثهُ، وأرانا العلامات على جسده من التعذيب. نظر إليّ مبتسماً وقال: “عذّبوني بطريقة الدولاب لمرة واحدة فقط! غيري كان يتعذّب بها مراراً وتكراراً!”
وطريقة التعذيب التي تُسمّى الدولاب، يتم فيها تقييد يدَي المعتقل إلى رجليه، ليصبح مثل دولاب السيارة… وبعد ذلك تبدأ عملية الضرب على أنحاء مختلفة من جسده….
كل هذا دفع إبني رضوان، لأن يُكمل طريقه بقوة وعزيمة، في سبيل ثورة الحرية والكرامة… إلى أن شاءَ الله واستشهد في 24 آب/أغسطس 2012.
زهور الشام (42) مطلقة، لجأت مع ابنتها إلى لبنان حيث تعمل كمعلمة لمحو الأمية للسيدات واليافعين واليافعات وهو ما كان عملها في داريا في سوريا. أمّا ابنها الآخر فقد هاجر إلى ألمانيا حيث تم قبول طلب لجوئه.