رفضتُ أن أُردّد القسَم!
تعليم تفصيل الملبوسات في مشغل "دارنا" لتعليم الخياطة للنساء الواقع في حي المشهد. - صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
كنت طالبة في قسم الرسم في معهد إعداد المدرّسين… وكان سكني مع صديقاتي بالقرب من مركز حفظ النظام في المربع الأمني. كان الخوف الشديد يملأ قلوبنا، فحتى نوافذ المنزل لم نكن نتجرأ على فتحها خشيةً من مركز حفظ النظام! خاصة وأنّ الثورة أصبحت في أشدها في نهاية العام 2013.
في أحد الأيام عند الحادية عشرة ليلاً، سمعنا أصوات الأقدام تتسارع وتطوّق المبنى حيث نسكن، ويتألف من ست طبقات… ليتبيّن في ما بعد، أنها مداهمة للشقق بذريعة البحث عن السلاح.
دخلوا إلى شقتنا، حيث كنت أنا وصديقاتي خائفات كثيراً… ثمَّ بعد التفتيش الذي لم يدع غرضاً في مكانه، خرجوا… وبالأساس لم يجدوا شيئاً في المبنى.
من شدة الخوف فكّرنا بترك السكن، لكنَّ الدراسة تتطلب التضحية، والقبضة الأمنية في كل مكان! فبقينا… وكان كل أملي أن ينتهي النظام إلى غير رجعة.
مضت الأيام بخوفٍ شديد، حتى حلَّ العام 2014، وأتت ذكرى تأسيس حزب البعث، والتي تصادف في 7 نيسان/أبريل.
طلبَ مسؤولو الحزب من قسم الموسيقى في المعهد تحضيرَ حفلٍ في المركز الثقافي من أجل تلك المناسبة البائسة. وكالعادة، كان الحضور إلزامياً لكل الطلاب!
في قاعة المركز كنت بصحبة صديقتي، وكان يوجد ازدحاماً شديداً من الطلاب المُجبَرين على الحضور… وكان هناك كثافة لعناصر الأمن، الموجودين لحماية المسؤولين الذين يتقدمون الصف الأوَّل من الحضور.
وكما جرت العادة دوماً، بدأ الحفل بكلمات الثناء والتبجيل بحزب البعث الحاكم ورئيسه. وأقيم الحفل… عند الإنتهاء، كنت أعتقد أني انتهيت من المهزلة… لكن كانت المفاجأة أن يصعد أحد الضبّاط الصغار إلى منصّة الميكرفون، ويقول: “قبل خروجكم، يجب أن نجدّد معاً قسم الحب والولاء للوطن والقائد”!
بدأ قلبي يخفق بسرعة، غضباً وخوفاً معاً… لا أريد أن أُردّد ذلك القسم!
وقفَ الجميع… شعرتُ أني إذا وقفت، سأكون خائنة للثوّار الذين يستشهد منهم الكثير، كي نعيش نحنُ بحرية وكرامة. فقررتُ أن أبقى جالسة…
وكان جميلاً أنهُ عندما رأتني صديقتي جالسة ولم أقف، بقيت جالسة هي أيضاً!
دقيقتان من الزمن وكأنها سنة من الخوف! فنحن لم نُطع الأوامر المُنزَلة! ذلك “قسم الوطن والقائد”!
كنت أنظر للجميع من حولي واقفين، ولكن ليس بإرادتهم…
فجأة، نظر إلينا أحد الضبّاط، وبنظراته كان يقول لنا: قفن!
لم نستجب له…
ثمَّ نظر ثانيةً، فبين أن نقف وأن نبقى جالستين، وقفنا على مضض… حتى صرف نظره عنا، لأنهُ يراقب الجميع، فعدنا للجلوس!
مضى القسَم وانتهى كل شيء… كنّا أنا وصديقتي نريد أن نهرب من ذلك المكان، بسرعة كبيرة!
لنفاجأ بذات الضابط المخيف، يظهر أمامنا ونحنُ عند الباب… رمقنا ونظراته كانت تزرع الخوف الشديد!
ثمَّ تركنا نمضي بسلام، فهرعنا مسرعتين إلى خارج المركز…
أشكر الله أنهُ في ذلك اليوم، قد خرجنا سالمتَين!
بعد أسابيع، بدأت الإنتخابات الرئاسية، وبدأت معها الإحتفالات في كل مساء على مدار أسبوع كامل. لكنّ مدافع الثوّار كانت تنغّص فرحتهم.
وفي يوم الإنتخاب، طائرات النظام لم تغادر سماء إدلب… وفي المقابل، قذائف الثوّار كانت تسقط على قوات النظام!
الإقتراع كان إجبارياً لجميع الناس، فخرجوا للإنتخاب. أمّا أنا وصديقاتي، أتى أحد عناصر الأمن، وأخذ منا بطاقاتنا الشخصية لينتخب عنا!
في تلك اللحظة، أنا وصديقتي، شعرنا فعلاً بخيانة الوطن والثوّار… بعدما كنا قبل أيام نرفض ترديد القسَم! لكن كنا جميعاً مُجبَرين على ذلك!
بقي حكم بشّار في انتخابات غير شرعية…
إلى أن أتى العام 2015، وكنا في الغرفة المظلمة لا نسمع سوى أصوات الإنفجارات وصراخ الأطفال والنساء… كان يوماً مرعباً جداً، لم نرَ شيئاً! فقط، نسمع الأصوات!
كنّا نفكّر، هل سنموت الليلة أم سنعيش لنروي ما حدث؟
فجأة دخلت مجموعة من الثوّار لتُخرج الناس العالقين في إدلب…
كانت تختلط مشاعر الخوف بالفرح والنصر.
تحررت مدينتي، وقسمي لم يكن للرئيس وحزبه بل للثورة وللأوفياء فيها.
ولاء كرم (25 سنة) من ريف إدلب، تعمل كمُدرّسة. خرّيجة معهد رسم، ومقيمة حالياً في ريف إدلب بعدما نزحت منهُ مرتين.