رحلة حلب من السابعة صباحاً إلى السابعة مساءً
بدأ الهاتف الجوال بالرنين بعد حوالي نصف ساعة من وصولنا إلى منطقة الشبكة (في إشارة إلى المناطق التي تحظى بتغطية شبكة الجوال) كانت أمي من تولّى الرد على الاتصال. علمت بالموضوع الذي ستدور حوله المحادثة، كما علمت أيضاً أن هذه المكالمة ربما تكون الخطوة الأولى في حياتي الجديدة. بيد أن التجارب الصعبة والاحباطات السابقة علّمتني ألا أتوقع الكثير، بقدر ما يكون عادة هذا النوع من المكالمات الهاتفية أمراً شيقاً للغاية. بقدر ما سيطر البرود على أعصابي، لدرجة أني لم أسأل أمّي عن شيء، لتقول لي بعد عشر دقائق من نهاية المكالمة: “إنها الطبيبة التي تحدثنا معها البارحة. سنذهب إليها غداً لتفحص عيونك”. كان ذلك يوم الثلاثاء في 10 تموز/يوليو 2014.
لم أعد أذكر التاريخ الذي وضعت فيه النظارات الطبية لأول مرة. إلّا إن أمي تقول أني وضعتها في سن الثالثة. منذ ذلك الوقت وأنا أعاني من مرضٍ في شبكية عيني يدعى “مد في النظر”، وبحسب استشارة طبيب العيون عبد القادر بدرة اعتدت على ملازمة النظارات فترة طويلة وذلك لقوله: “لا أستطيع إجراء عملية جراحية لك إلا بعد الثامنة عشر من عمرك، لذا عليك ملازمة النظارات” .
وبعد أن أنهينا المكالمة الهاتفية عدنا إلى المنزل، لتخبر أمي أبي عن موعد السفر. ذهب أبي ليأخذ لنا موعداً من أحد سائقي السيارات المتجهة إلى حلب، حيث طبيبة العيون سوسن إبراهيم التي خابرتنا.
في السابعة من صباح اليوم التالي انطلقنا من كفرنبل إلى حلب أنا وأمي. لم يستطع والدي الذهاب معنا لأن ذلك المكان يخضع لسلطة النظام التابع لبشار الأسد، وأبي مطلوب لفرع الأمن السياسي .
بعد حوالي ساعة من الزمن قطع سلسلة أفكاري قول السائق:”ليضع كل واحد منكم هويته بيده” أيقنت وقتها أننا بلغنا أول حواجز النظام. لم أعد أذكر المكان تماماً ولكن بعد ربع ساعة أصبحنا في دوار الموت (عبارة عن تقاطع عدة شوارع وهو موقف خاص بالنقليات) الذي تنطلق منه السيارات باتجاه كفرنبل وبالعكس، وبمرور بضع دقائق وصلنا مشفى المستقبل الخاص المتواجد في حي الحمدانية، دخلنا بعدها غرفة الطبيبة سوسن تحدثنا قليلاً ثم بدأت بفحص عينيّ كالمعتاد ثم طلبت إلي ان أنتظر مختصّاً آخر .
بقينا ننتظر المختص ساعة كاملة، حيث شارفت الساعة وقتها على الواحدة ظهراً. وفور حضور ذاك المختص بدأ بفحص عينيّ مستخدماً أجهزة حديثة متصلة بحواسيب لم أرَها من قبل. ثم قال: “في هذا الوقت من الصعب القيام بهذه العملية الجراحية، والصعوبة تكمن في توفير العدسات الطبية التي سندخلها إلى خلف الجسم البلوري في العين، عن طريق الفاكو أنتم أذهبوا وأنا سأخبركم بما يجدّ “.
خرجنا من ذاك المشفى ولكننا لم نجد أي سيارة متجهة إلى كفرنبل أو حتى ما حولها. ولا نملك في هذه المدينة الكبيرة سوى رقم هاتف كنا نظنّه لأحد أقربائنا، ولكننا فوجئا بأنه غير موضوع بالخدمة. وعنوان منزل لأحد الأشخاص الذين نعرفهم والذي كان “ناقصاً “بحسب ما قاله أحد سائقي سيارات الأجرة في المدينة، والذي أخذ يتجول بنا شرقاً وغرباً ومن حي إلى أخر ومن منطقة إلى أخرى دون جدوى.
لم يبقَ أمامنا سوى التوجه إلى المخيمات عند الحدود التركية. فمن شخص إلى أخر وبعد ساعات من السير المتواصل، قرابة الساعة السابعة مساءً وصلنا أخيراً إلى مأوى نقضي فيه ليلتنا عند أحد أقرباء أمي في إحدى الخيم.
آمنة اليوسف (21 عاماً) خريجة كلية حقوق في جامعة إدلب. تعيش مع عائلتها المكونة من تسعة أشخاص في إدلب، نزحت مع أسرتها عدّة مرات خلال السنوات الأربعة الماضية، آخرها كانت إلى الحدود التركية قبل أن يعودوا مؤخرا إلى منزلهم.