ذهب ولم يعد

لا زلت أذكر زيارته الأخيرة، بدا حينها وكأنه جاء ليودعني. كان ذلك أثناء معركة الجيش الحر مع قوات النظام في معرة النعمان. أخي إسماعيل (38 عاماً) زارنا يومها آتياً من دمشق العاصمة ليتفقدنا،  حيث أقيم مع زوجي في كفرنبل، يوم بداية معركة تحرير معرّة النعمان، الأحد 8 تشرين أول/أوكتوبر 2012.

عند وصوله منطقة خان شيخون، لم يسمح لهما الحاجز بالتقدم نحو المعرة. كان أخي بصحبة صديق له من منطقة بليون. أمرهما العسكري بالعودة. لكن اسماعيل لم يرضَ بالعودة دون أن يطمئن على أهلي ويراهم، وخاصة وأنه لم يرهم منذ زمن. هو يعمل سائق سيارة أجرة ومستقر مع عائلته في دمشق.

تمكّن أخي من اقناع صديقه بقصد طريق آخر يؤدي إلى كفرنبل ثم بليون. وافق صديقه، وفعلا وبعد بعض الصعوبات وصلا كفرنبل، وإذ به عند باب منزلي. لم أصدّق عيني، شعر كلانا بفرحة كبيرة، وحضنّا بعضنا. وكأنه لم يبقَ لي سواه ولم يبقَ له سواي في هذا العالم. جلسنا وتحدثنا طويلاً، سألني عن أحوالي وأذا ما كنت أعرف شيئا عن أهلي، أمي وإخوتي. أبي متوفى منذ مدة طويلة. أجبته بأنني لم أعرف عنهم شيئا بعد، خاصة وأن الاتصالات كانت مقطوعة آنذاك. لا بد وأنهم نزحوا إلى إحدى الأماكن أو القرى المجاورة لمعرّة النعمان، ريثما تنتهي المعركة. بدا القلق على مصير أمي وإخوتي ظاهراً على كلينا. ولكنني كنت أطمئنه بأنهم مؤكد بخير، ربما هم عند أحد الاقرباء في القرى

المجاورة.

أخبرني أنه يتمنى أن يراهم فهو مشتاق لهم كثيرا، قلت له أن يدع هذا الأمر وأن يحدثني عن نفسه. أخبرني أن دمشق مليئة بالحواجز الأمنية، ويضطر كل مئة مترأن يتعرض لسؤال وجواب وتفتيش هو والركاب. هذا الأمر أتعبهـ لاسيما وأن عمله يفرض عليه أن يمضي نهاره ذهاباً واياباً على حواجز الجيش والأمن. سواء إن جاءه طلب نقل ركاب داخل دمشق أو إلى المناطق المجاورة. هو يضطر في كل مرة أن يسايرهم ويبتسم في وجوههم. ورغم ذلك كان يتعرض لحجز السيارة أحياناً، ومحاولة اعتقاله أحيانا أخرى. بحجة أن هذا الطريق ممنوع المرور به، وفي كل مرة كان  يدّعي الحمق. وبأنه لا يعرف إذا هم لم يخبروه بذلك. فيطلقون سراحه بعد جهد جهيد. كما وأخبرني أن عمله خفت وتيرته في الآونة الاخيرة، بسبب غلاء البنزين وكثرة الحواجز. وقد آثر معظم الناس أن يتنقّلوا سيرا على الاقدام أو في الباصات

أمرأة تعيش مع أطفالها في كهف في حي المعادي بحلب. تصوير: براء الحلبي.

العامة.

أمضى اسماعيل يومين في ضيافتي. ثم قرر السفر في اليوم الثالث والعودة إلى دمشق حيث عائلته وعمله. حاولت إقناعه بتأجيل سفره ريثما تهدأ الاوضاع قليلاً، لاسيما وأن معركة تحرير المعرة لازالت في أشدها. لكنه أصر على الذهاب. ودّعته وتمنيت له الوصول بالسلامة.

بعد ثلاثة أشهر من زيارته تلك، اتصل بي هاتفياً، ولحسن الحظ كانت الاتصالات متوفرة. سألني عن الأوضاع وعن أحوالي وأحوال أهلي، طمأنته أن الجميع بخير وأنه بعد سفره بيومين أتوا أهلي لزيارتي، وأخبروني أنهم كانوا في مكان آمن حمدالله. وحزنوا  لانهم لم يتمكنوا من رؤيته. بشرني أخي بولادة طفلته الجديدة سلسبيل. سررت كثيرا لهذا الخبر وهنأته بولادتها، حيث أصبح اباً لأربعة صبيان وثلاث بنات.

وبعد شهر تقريباً من هذه المكالمة،  جاء الخبر المشؤوم باعتقال اسماعيل. داهمت قوات الأمن بيته في يوم الثلاثاء في 15 شباط/فبراير 2013، عند الساعة الخامسة صباحاً وتم اعتقاله. فوجئت بالخبر وخاصة أن اسماعيل لم يكن له أي نشاطات ثورية، كان مواطناً

عادياً اهتمامه منصب على عمله وأسرته.

سافرت أمي إلى دمشق في محاولة للبحث عنه في السجون، ومعرفة جريمته. على اعتبار أنها امراة كبيرة في السن، واستبعاد اعتقالها او اذيتها. ولكنهم في فروع الامن كانوا يقومون بطردها دون أن يعطوها أي معلومات عن اسماعيل. وكّلت له أحد المحامين لكنه فشل في معرفة مكانه، بعد الكثير من الوعود وأخذ النقود طبعاً.

عادت أمي إلى المعرّة بعد فشل محاولاتها برؤية اسماعيل. كما فشلت في إقناع عائلته بالسفر معها إلى المعرة. أصرّت زوجته على البقاء في دمشق، خاصة وأنها عثرت على وظيفة هناك، وستحاول البحث عن اسماعيل بين الحين والآخر.

مضى أكثر من سنتين من دون أية تطورات في قضية اسماعيل، إلى أن وصلنا الخبر الذي لم نكن مستعدين له، وهو زواج زوجته في دمشق. وعند سؤالنا عن السبب قالت أنه توفي في السجن، وأنها رأت صورته بين صور المتوفين داخل السجون.

لم أصدق هذا الكلام، وكأن شيئا داخلي منعني من أن أصدق. ما زلت آمل بخروجه يوما من السجن وعودته لنا سالماً.

هاديا منصور هو اسم مستعار لمدونة من ادلب تكتب مقالات لمعهد صحافة الحرب والسلام

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي