عام على الثورة

لست بطلة، ليس تحت الظروف الراهنة على أي حال. ولكنني أشعر بقلبي يصرخ. الكلمة التي تجعل العالم يدور، من يقدر عليها؟ حتى الموت لا يستطيع أن يغلبها. حرية حرية! أحلامي تخيفني كثيراً. أرى خالد، وبلال صديقنا الفلسطيني الذي قال له الشبيحة “بوس إيدك وش وضهر مقعدينك ببلدنا” وتم إيقافه بعد كتابته بضعة سطور في الوقت الذي لم يقدر آخرون على تلك الكلمات القليلة. كلنا في مكان فظيع. خالد صحفي من المغرب العربي. جمعتنا الثورة، لا شيء آخر. أمضى 20 يوماً في زنزانةٍ سوداء قميئةٍ لأنه حاول نقل كلمة “حرية” من أفواهنا الى العالم في الوقت الذي لم يكن هناك أي وسيلة أخرى إلا الأحاديث الخفية حتى الفجر.

كنت أمشي أتلفت ورائي لأرى إن كان ثمة من يتبعني عندما كنت أذهب للقائه. إتفقنا على القول أنّنا عشّاق إذا ألقي القبض علينا وسئل أحدنا عن الآخر، حتى أننا أخبرنا أحباءنا. تخيل أن يقول لك حبيبك إذا ألقوا القبض عليك، قولي إنك على “علاقة” مع ناشط ما. تغيرنا وتبدلت همومنا وما نراه معقولاً وما نراه قذراً. أن تكون خائناً أفضل من أن تكون ثائراً في عين الجلاد “يا روح ما بعدك روح.” بإمكاني وصف خالد بكل التفاصيل المملة. أعرف أنه اعتقل. حلمت به. رأيت خالد في المنام، في زنزانةٍ معينةٍ وكان الحلم حياً وحقيقياً. كان يلبس قميصاً أزرقاً مخططاً غامق اللون. يجثو على الأرض في مكانٍ مظلم. هناك على الحائط بقعٌ قد تكون دماً. هناك مياه بجواره قد تكون بول أحدهم، يمسك برأسه، ينظر إلى الأسفل، يهز رأسه. لا أدري ماذا يقول. يستمع إلى العويل من هول التعذيب في الغرفة المجاورة. تضيق الزنزانة أكثر حتى تصبح الحياة كلها زنزانةً ضيقةً إنفرادية.

ورغم أنّ جسدي يرفض أن يذلّ نفسه تمكنت روحي من الإيقاع بي في شرك الخروج. الخروج عن الصمت وقرفه. لم أخرج للتظاهر بسبب خوفي على جسدي وما قد يحل بي من تعذيبٍ وإهاناتٍ أو حتى تصفية. أما الروح فهي تدفعني لأن أتحمّل كلّ هذا في سيبل ما أؤمن به. أجيب على اتصالات الأصدقاء ونداءاتهم غير المعلنة التي لا أعرف كيف تصل وكيف أتلقفها كرادار ذكي يلتقط الأخبار. عندما تنقطع بنا سبل التواصل نخلق سبلاً دون أن نعلم. وبين الحلم والكابوس هناك صفعة رعبٍ وصرخة خوفٍ وجوديٍ مرعب إن تكلّمت وإن لم أفعل. وعندما يتكلم الآخرون متبجحين عن كيف تحاك المؤامرة ضد النظام الصامد الأبي “المقاوم” الذي لم يطلق رصاصة منذ 40 عاماً ولم يحرّر شيئاً سوى تشيكاته البنكية، أهز رأسي ليس بالإيجاب وإنّما حتى يعلموا أنّني كنت أستمع إليهم. ضئيلةٌ هي معرفتي بما تقوله عيناي.

تم إلغاء المظاهرة اليوم فجأة. لا أحد يعرف لماذا.

ألقى الرئيس خطابه قبل أيام. قد يكون منزعجاً جداً لكي يخطب بهذه الطريقة الفظة. الآن هناك “قضية” ستطارده بقية عمره وحياته وستطاردهم هم أيضاً لوقتٍ طويل جداً. كل من قتل وعذب وشرّد. قد يكون آن الاوان أخيراً لكي يذوقوا بعضاً مما كانوا يقدمون لي كل حياتي، أنا وغيري بالطبع.

سألت الأصدقاء عن خالد اليوم. لا إجابة بعد. مضى 15 يوماً ولكن على الأقل أعلم أنّه بخير. لكن الشعور بالذنب يحرقني كألمٍ مميتٍ في القلب. فقد كنا سويّة عشية اعتقاله وأشعر أنني أحد الأسباب التي ألقت به في ظلمة الحبس. والعار! كيف أتجاوز الشعور بالعار. أنا لست بطلة البتة. فلماذا أدّعي ما أنا لست عليه؟ فقط من أجل الظهور؟ عندما أبوح بما في جوفي يقول لي أهلي وذويّ أنّ هذا الوقت ليس وقتي أنا. كم أنتظر هذا اليوم على أحرّ من الجمر. يوم أشعر حقاً بالحرية، أشعر بحرية أن أحبّ وطني بتجرد دون أن أضطرّ إلى كرهه بسبب من يطغى عليه ويلخّص فكرة الوطن في شخصه. فهو الأرض والعرض والعلم. لست متأكدة إن كنت سأتوقف عن انتظاره أبداً. قد أهرب وأترك كل شئ ورائي وأجد لنفسي مكاناً نفيساً آخر لأعشقه. ألا نتجاوز قصص حبنا القديمة وننسى عشاقنا الأوائل ونحارب ألم الانتماء؟ فلما يكون هذا مختلفاً عن ذاك؟ لماذا نضيع حبنا على القساة والخونة؟ أجد نفسي بأنني لازلت أرى وطني في عيون حكامٍ قهرونا مدة طويلة حتى في اللحظة نفسها التي أنتقد ذلك فيها. لكن ما الحياة دون حربٍ نقاتل فيها بصمودٍ عن حقنا؟ إنها مسألة حياة أو موت. فلماذا نموت من أجل شيء لن نعيش لننعم به لاحقاً ولن نعرف حتى إن انتصرنا أم لم لا؟ من يحق له لومنا لرغبتنا بالبقاء وإقصاء الوحوش؟ لدي الكثير من الكلمات والأغاني التي أود أن أنضح بها صارخة. أشياء بدأت أشعر بها بالأمس فقط. شعور أن يكون لي وطنٌ أقاتل من أجله وأستبسل في الدفاع عن حقي في الإنتماء إليه. أنا ربيبة الغربة التي لا تعرف ماذا يعني “الوطن” والذي طالما اقتصر على عيون أمي. من الذي يحق له أن يحدّد كم تحتاج قلوبنا من الوقت حتى تصبح وفية وقوية ومتماسكة بينما كل ما هو من حولنا يتهاوى.

إنه مجرد يوم جديدٍ ذي سحابة رمادية وعلامة استفهام كبيرة في دمشق.

ماذا سيحل بنا؟

دمشق في ساعته وتاريخه