خياطة جرح عبر الهاتف
طفل متصاوب بقدمه من اثر القصف يجلس في الطريق مع اصدقائ
"سألت جاراتي ان كان لديهن مواد طبيه أولية. احضرت لي احداهن حقيبة اسعافات أولية، كانت لقريبتها التي تعمل قابله توليد، وقد خرجت من المدينة قبل سنة"
إنها الحرب، وعلينا الرضوخ لهذه الحقيقة … علينا جميعا التعايش مع ظروفها. تلك الحرب التي جعلت مني مسعفة، رغم كوني معلمة لغة عربية.
لم امتهن التمريض يوماً، انما خضعت خلال فترة دراستي لدورة اسعافات أولية في منطقتنا. وأظنها كانت مفيدة لي في ظل الأحداث التي عشتها في ما بعد خلال الحرب في بلادي.
دويَ القذائف لايزال في أذاني، لاسيما في ذلك اليوم حين طالت إحداها المبنى الذي كنت أسكن فيه. أصابت شظاياها جارتي التي كانت تسكن بالطابق العلوي. كنَا في مدينة تعيش الحرب بكل معنى الكلمة، يستمر القصف العشوائي ولا يتوقف القنص الذي يستهدف المارة اطفالاً كانوا أو كبار، رجالاً ونساء.
كنا نسمع صراخاً ممزوجاً برشقات من الرصاص وصدى لقذائف. كانت تطال البيبوت، لنعلم فيما بعد أن أحد المارة قد أصيب أو فارق الحياة .
مع غياب شمس ذاك النهار. أحد أيام القصف العشوائي. هرول أطفال الجيران الينا يصرخون: “أصيبت أمي”.
كانت قد أصيبت في قدمها، وتحاول الزحف وجسدها إلى الارض خشية أن يعاود القناص رؤيتها فيرميها برصاصة… وقد تكون القاضية . كانت إحدى بناتها تساعدها في نزول الدرج ..بينما الاخريات ينتظرنها باكيات في أسفله.
خرجت الى باب شقتنا وساعدتها على الدخول. اجتمعت نسوة العمارة حولها، كنت امسح دمها محاولة معرفة حجم إصابتها. اتصلت عبر الهاتف بالطبيب الوحيد المداوم في المشفى المتواجد في البلدة. وكان طبيب أسنان.
طلب مني الطبيب عبر الهاتف إيقاف النزيف أولا… بربط القدم .أظنه كان واثقا من قدرتي .. فسبق أن ساعدته بمداواة بعض الاصابات في ما مضى. كنت ارتجف، فأنا لوحدي الآن .. ليس معي إلا بعض المعلومات القديمة عن التمريض والاسعافات الأوليه، وبعض المعدات البدائية، وصوت الطبيب عبر الهاتف يملي عليّ ما يجب ان أقوم به .
قال: عليكِ تنظيف الجرح وإخراج الشظيه.
قلت متعجبه مذهولة: كيف؟
كانت المرأة تتألم وتبكي وتتوسل بنظراتها طلباً لمساعدتها، وليس سواي قادر على ذلك. النساء الباقيات كلهن كبيرات بالسن او صغيرات جدا.
عزمت على الأمر … وسألت جاراتي ان كان لديهن مواد طبيه أولية. احضرت لي احداهن حقيبة اسعافات أولية، كانت لقريبتها التي تعمل قابله توليد، وقد خرجت من المدينة قبل سنة.
فتحت الحقيبة، وبدأت بالعمل. نظفت الجرح ومازال الطبيب يساعدني. أحرقت الملقط الذي كان في الحقيبة لتعقيمه، وأخرجت الشظيه من قدمها، دون ان اعطيها المخدر اللازم لعدم توفره.
قال لي الطبيب: “علينا الآن خياطة الجرح، المكان الذي أنتم فيه تحت مرمى القذائف ومن المستحيل وصولي اليكم. لذا فعلي مساعدتك من بعيد”.
تلعثمت للحظات، عادت بي الذاكرة إلى حادثة ولدي الذي أصيب يوما برأسه، وكنت حاضرة على خياطة جرحه بتفاصيلها.
أغلقت الهاتف، نظرت إلى الحقيبة، تناولت الخيط والابرة المعقوفه، وبدأت أنفذ المهمة… ساعدني صبر جارتي المصابة الذي تحلت به وجعلني بهدوء أتم العمل، أغلقت الجرح … عقمته … وضمدته. لقد كانت أصعب ساعة تمر عليّ في حياتي كلها.
وبعد ساعات توقف القصف … زارنا الطبيب، والقى نظرة على الجرح … عاود تنظيفه والتأكد مما قمت به … لقد كانت تعابير وجهه تدل على فخره بعملي .