خرج من المعتقل ولم يخرج
مع بداية ثورة الشعب الذي طالب بها بحقوقه المدنية، كانت من أهم المطالب وقف الأحكام العرفية وإلغاء قانون الطوارئ الذي طال الكثير من الشبان وزجّهم في سجون النظام. ومن هؤلاء الشبان كان مازن، الشاب الذي أحببته والذي تم اعتقاله قبل ثلاثة أيام من موعد خطوبتنا عام 2006. بسبب نقده النظام على إحدى مدونات الانترنت، ولذلك تم توجيه الكثير من التهم له، منها النيل من هيبة رئيس الدولة، والاتصال بجهات معادية، والخوض بقضايا تمسّ أمن الدولة، وغيرها من التهم التي ما هي إلا باطل وتلفيق.
اشتعلت الثورة عام 2011، وبدأت المظاهرات في أكثر من مدينة سورية. حاول النظام كسب تأييد الشعب من خلال بعض القرارات التي أراد تخدير الشعب بها، ومنها إلغاء قانون الطوارئ (وأقر بدلاً عنه قانون مكافحة الإرهاب) وإخراج كل المعتقلين من السجون – على حد زعمه – حتى المعتقلين السياسيين.
مازن كان من بين المفرج عنهم بموجب هذا القرار، الشاب الذي أنتظره منذ 5 سنوات لكي نكمل مراسم الخطوبة التي لم تتم قبل اعتقاله. عندما سمعت بالقرار سارعت إلى الاتصال بأخته، وكانت تقول لي أن المحامي قد وعد خيراً، وأن مازن سيتم إطلاق سراحه من بين من سيطلق سراحهم. اختلطت مشاعري بين الأمل والفرح والخوف مما سيأتي. انتظرت طويلاً وكان اليوم يمرّ بسنة، إلا أن جاء الخبر الموعود: مازن حرّ!
جاءني الخبر من أخته التي اتصلت بي لتزف لي النبأ السار، ولكنه لم يكن موجوداً في المنزل لأكلّمه، ولم يكن لديه هاتف جوال بعد على حد قول أخته. اتصلت كثيراً ولم أحظَ بفرصة الحديث معه، فهو دائماً خارج المنزل، ولم يشترِ هاتفاً محمولاً بعد. مر 15 يوماً ولم أتمكن من الحديث معه، حتى بدأت أشك بأنه ليس على ما يرام، وبدأت ألحّ على أخته بأن تخبرني إن كان ثمة مشكلة أو أمر مخفي عني، وكانت تقول لي “مازن منيح، بس اعذريه، الله بيعلم شو اللي شافو بهالخمس سنين”.
انتظرت كثيراً ولم يأتني اتصاله. وبعد خروجه بما يقارب الشهر، كنت أسير على جسر الرئيس في وسط دمشق، فلمحته يسير في الاتجاه المعاكس. في البداية ظننته أنه وهم كما كان دائماً خلال الخمس سنوات، ولكنه استوقفني بكلمة “كيفك؟”. لم أصدق ما تراه عيناي، كان هو بصورة أخرى، فآثار التعذيب لا زالت واضحة على وجهه، وأسنانه مكسورة بالكامل، وشعر رأسه أبيض، ونحيل جداً، ويلتفت حوله أكثر مما ينظر أمامه. كان شكله يوحي بما قاساه خلال الخمس سنوات. أجبته: “أنا منيحة، بس المهم انت، ليش ما اتصلت فيني؟ مو لازم نحكي؟” فقال لي: “مبلا لازم نحكي، بس مو هون ومو هلأ لأني رايح عالمظاهرة بالقدم”. واتفقنا سريعاً على موعد نلتقي به في أحد المقاهي غير المعروفة والتي لا يرتادها عادة الكثير من الناس. استغربت اختياره، ولكن لا بأس، فما أنتظره حل لكل هذا الغموض.
التقينا عدة مرات فقط، وفي كل مرة كان يختار مكاناً شبه خالٍ من الناس، ويقضي اللقاء يتلفت حوله. وكل ما قاله خلال هذه اللقاءات أنه خائف، خائف من كل شيء، وخائف علي. كان يعتقد أنهم يراقبونه طوال الوقت، وقد يعتقلونه من جديد في أي لحظة. وقال لي أنه يريدني ويريد أن يتزوج بي، ولكن ليس في سوريا (لأنهن ما رح يتركونا بحالنا) واقترح علي أن نسافر معاً إلى بيروت ونتزوج هناك، وطبعاً رفضت ذلك، فقد أردت أن أفرح بنفسي وبه بعد طول انتظار في بلدي وبين ناسي، ولا أريد الهروب إلى مكان آخر.
وحين كنت ألتقي به مصادفة في المظاهرات كانت يتظاهر بأنه لا يعرفني. وعندما سألته قال بصوت خافت: “ما بستبعد يرجعو يعتقلوني، بس ما بدي اذا اعتقلوني يوصلولك أو تنصابي بأي أذى”.
لم أعد أحتمل خوفه، والكثير من المشاكل النفسية التي خلفها اعتقال دام خمس سنوات، ولم أتقبل حينها فكرة الهرب، فقررت تخييره: إما أن نتزوج في سوريا ونسافر في ما بعد، أو الانفصال. فكان جوابه أنه لا يستطيع أن يجازف بي، وكان قراري ألا أستمر في هذه العلاقة. وفعلاً هذا ما حدث، فقد انتهت العلاقة هنا، بخوفه الذي لم يتغلب عليه، وإصراري الذي لم أتخلَّ عنه.
انتهت علاقة عمرها 8 سنوات بسبب ما خلفه المعتقل من خوف تحول إلى مرض مزمن. هذا العمر الذي ضاع مني من يتحمل مسؤوليته؟ مازن، أم النظام، أم أنا وحدي؟
سلام الصغير (35 عاماً) تعمل كمعلمة، تركت دمشق في العام 2014 وتقيم حالياً في ألمانيا.