حين قصفوا فرحة العيد
شاب يساعد إحدى السيدات التي تحاول الوصول لمنزلها الذي تعرض للقصف في حي المشهد في مينة حلب. تصوير صلاح الأشقر
إنهُ القصف الذي بتنا لا نعرف لهُ وقتاً. لقد زرعَ في قلوبنا الخوف. لكنَّ الأيام جعلتنا نتأقلم مع هذا الوضع. خاصة أنَّ مدينتي، تتغرض للكثير من القصف منذ تحريرها في 10 أب/أغسطس 2012… وإلى الآن ما تزال تتلقى ضربات متفرقة بين الوقت والآخر.
28 حزيران/يونيو 2016… أحد أيام شهر رمضان وقبل العيد بعدة أيام، يترسَّخ كذكرى قاسية في ذاكرتي، بعدما عدتُ أنا وزوجي من مخيمات تركيا. إنه اليوم الذي سرق منا فرحة انتظار العيد…
كنا صائمين ونعاني من ارتفاع درجات الحرارة وحدّة التوقيت الصيفي، حتى ساعة الإفطار… وبعد العشاء، طفلتاي نامتا. جلسَ زوجي يشاهد التلفاز. وأنا مللتُ من المكوث في غرفتنا الصغيرة، التي لا نملك سواها، فصعدتُ إلى السطح من شدة ارتفاع الحرارة.
جلستُ وحدي على السطح أتأمل الأجواء. كنتُ أسمع صوت الطائرات يعلو في سماء المدينة، بين الوقت والآخر. لم أشعر بالخوف، لأنَّ صوت الطائرات بالأساس، لا يغادر السماء.
بقيتُ لمدة نصف ساعة حتى انقطع التيار الكهربائي، قبيل منتصف الليل. نزلتُ لأفتح نافذة الغرفة حيث ننام وجلستُ إلى جانب النافذة أنا وزوجي نتحادث.
كانت بضع دقائق كافية لتحيل الليل نهاراً، وتتوهّج الأضواء في الحي! لم نسمع سوى أصوات الإنفجارات ترتفع.
رمينا بأنفسنا على الأرض بفعل الضغط القوي لإنفجار قريب، والحجارة بدأت تتساقط علينا والخراب يعم المنزل.
عرفتُ حينها أنّ الطيران الغادر استهدف حيَّنا، ولم أفكِّر سوى بطفلتَي الصغيرتين!
صرتُ أصرخ حتى وصلت إليهما في الجانب الآخر من الغرفة، وسط الغبار… جلستُ بجانبهما، ألتمسُ جسديهما لأطمئن أنهما بخير. والحمد لله لم يُصب أحدنا بمكروه.
لكن سرعان ما بدأ الصراخ يعلو في كل مكان، وخاصة أمام محل جارنا. اتجهتُ نحو النافذة من جديد، لأرى ما الذي يجري!
كان جارنا يحمل ابنته التي تبلغ من العمر خمس سنوات، وقد مزَّقت الشظايا أحشاءها، وغطت دماؤها ثيابه… جارنا يركض يميناَ ويساراً، ويصرخ بصوتٍ عالٍ ومتألِّم، ويطلب المساعدة لعلَّ سيارة تقلّه إلى المستشفى. مجرد لحظات وكانت سيارات الإسعاف تملأ المكان، والدفاع المدني أغلقَ جميع مداخل الحي لمنع التجمُّعات.
حاولنا الخروج من المنزل، لكن يصعب علينا ذلك بسبب الغبار والدخان اللذين حجبا الرؤية. وعلا صوت يُنادي في المسجد: “أخلوا التجمعات… والتزموا الأقبية”!
ولأنَّ الطائرة ما تزال في الأجواء، وهناك خشية من غارة ثانية، ولا نعرف إلى أين نذهب… كان الجميع في حالة ارتباك وخوف.
بكاء الأطفال والنساء يعلو في كلِّ المنازل، والجميع يحاول إخلاءَ الحي… حينها رأينا النار تعلو بالقرب من منزل عم زوجي…. لقد وقع صاروخ هناك، واشتعلت النيران بالأشجار القريبة. فذهب زوجي ليطمئن على عائلة عمه، الذي أُصيب إبنه.
بعدَ وقتٍ قصير، ونحنُ نقف أمام المنزل، حضر إخوتي ليطمئنوا علينا، وقد ظنوا أننا تحت الركام، أو أننا أصبنا من شدة الإنفجار! وطلبوا منا مرافقتهم، لأنَّ الحي مهدد بالقصف مجدداً.
أسرعنا بالخروج… وبعد الوصول لمنزل والدي، بدأتُ أشعر بالطمأنينة. لكن سرعان ما جاء الطيران المروحي ليُلقي ببرميل متفجر آخر، بالقرب من مكان التفجير الأول.
وعرفتُ، أنَّ الطفلة التي كان يحملها والدها بعد التفجير الأول، قد توفيت… وبأنَّ الصاروخ الثاني سقط على منزل جارٍ آخَر… فتوفيت زوجته التي تنام على السطح مع أولادها، وأصيب زوجها ورفاقه داخل المنزل… وسقط صاروخ ثالث علي منزلٍ آخر… والرابع لم ينفجر…
هذه الهجمات كانت كفيلة بأن تجعل مدينتي تعيش مأساةً مؤلمة، ليعود الخوف إلى قلوب أهلها مجدداً… خيَّمَ الحزن على منازلَ المدينة، ومرَّ العيد وكأنه عزاء…
لا تفارق مخيلتي تلك اللحظات… ماذا لو أنَّ أحد الصواريخ سقط على منزلي؟
لا تفارقني صورة المرأة المنهارة لفقدان طفلتها، وهي من عمر طفلتي… لا أنسى بكاء الأطفال الذين فقدوا أمهم وأصبحوا أيتاماً، قبل فرحة العيد التي كانوا ينتظرونها… خاصة أنها كانت قد اشترت لهم ملابس العيد. هذا الألم يعيشه أهل وطني يومياً، بسبب قصف الطيران الذي لا يرحم…
تغريد العبدالله (30 عاماً) من مدينة كفرنبل، متزوجة ولديها طفلتين. نزحت عدة مرات ضمن سوريا وثلاث مرات إلى تركيا.