حياتي المفعمة باللعب
طقوس العبور على حاجز الزبلطاني في دمشق تصوير رافيا سلامة
"وكيف تكون الشجاعة والإيمان والمبادئ يا ترى؟ وهل علي أن أفكر في كل هذا ولدي اللعبة الأكثر استجراراً للوقت على الاطلاق، تلك التي مللت منها ولم تمل منك، هل المياه مقطوعة؟ متى تأتي الكهرباء؟ كيف يأتيان معاً لأستطيع غسل الثياب؟"
أن تكوني ناشطة تعيش في مناطق النظام وتعارضه في آن، لهو أمر على مستوى مرتفع من الإثارة! ألعاب عدة ترغمين على دخولها لتجدي مهاراتك تشحذ بشكل لا تريدينه حقاً!
لأني أستخدم البروكسي (وسيلة للتملص من المراقبة على شبكة الأنترنت) بشكل دائم حفاظاً على أمني، يتعامل معي Google على أني روبوت شرير. ويدعوني إلى لعب تلك اللعبة المزعجة مثبتة إنسانيتي، بأن أختار من صور يعرضها لي، تلك الخاصة بمحلات ذات واجهات أو نوافير ماء، أو يدعوني لفرز المأكولات بين صور الهمبرغر والباستا.
يجبرني Google ومعه Facebook كل عدة أيام على تغيير كلمة السرّ لأن هناك: نشاطاً مثيراً للشبهة يقع على حسابي. هنا تبدأ لعبة الذاكرة بعد كلمة السر الثانية والعشرين بعد المئة خلال عام واحد. استخدمت أسماء بعض المشاهير لفترة، ثم بدأت باستخدام أسماء أصدقائي، لكني اليوم في فئة الشوارع. بدأت بحيي ثم بالأماكن التي قطنت فيها سابقاً ثم…
آه لقد وضعت اسم الحي حيث عيادة طبيب أسناني، وهذه هي كلمة سري اليوم. ما أحلى التحدي والربح في هذه اللعبة، الخسارة هي دورة غريبة لتأكيد كودات مختلفة. لست أستطيع أن أصفها كلعبة أمام غيرها من الممارسات المصنفة كذلك حتى الآن، لتشابهها التام وأخرى يمارسها الناس الطبيعيون للتسلية.
على سبيل المثال وبعيداً عن العالم الافتراضي، فلعبة “الطميمة” (تسمى الغميضة والاستغماية، حيث يكون أحدهم مغمض العينين وعليه أن يجد المختبئين بعد أن يفتح عينيه) التي أحببت في طفولتي تمارس الآن وبشكل يومي، وعند أغلب المشاوير. لكنها تجعل مصيري كله مرتبطاً بقدرتي على الاختباء، مما يفسد علي متعتها القديمة. الابتعاد عن الحواجز التي تقوم بعمليات التفتيش، والظهور بمظهر المواطن المحايد بوجه يخلو من التعبير وحركات خفيفة ولباس لا يلاحظ. كل هذا يجعل اللعبة على مستوى المدينة، وبيني وبين معظم رجال الدولة ومن يمثلونها وللمرء أن يتخيل كم هم كثر في مناطق النظام اليوم.
لعبة التنكر والتخفي مناسبة عند دخول مناطق المعارضة، حيث علي أن أرتدي حجاباً، وألا يلاحظني أحد فيشتبه في أمري. ثم أمر محمّلة بأكياس الطعام للظهور بمظهر المواطنة المنتمية للمكان شبه المحاصر، ثم الدخول والتعامل حسب عقد اجتماعي مختلف. يشيح الناس بصرهم عني فيه ما يجعلني أظن أننا انتقلنا إلى لعبة البعبع.
عليّ عند العودة أن أختبئ جيداً لنزع حجابي دون أن يراني أحدهم ويصعق دينياً من كفري وزندقتي. وأكون كمثل كيس الملاكمة لسبابه ولعناته. حصل هذا فعلاً، وأحسست بانتكاسات مختلفة على صعيد اعتزازي بنفسي، وتعاطف كبير مع أكياس الملاكمة.
الارتحال في المدينة يشبه لعبة الحصن التي كنا نتابعها على التلفزيون لمن يذكر. لصعوبة المواصلات علي أن أجمع مشاويري وأخططها حسب الأمكنة والأزمنة، بما يلزمها من أغراض أو يفضل لها من لباس. الحركة داخل المركز التجاري على الأقدام، وتغدو من ألعاب التحمل حسب الحذاء. أما العودة إلى المنزل غير مسموحة حتى نهاية آخر نشاط خارجي، وإلا سأقع في مطب لعبة الحصن لمرتين متتاليتين في اليوم.
تبدأ اللعبة مرحلتها الأولى بالصعود إلى السرفيس. وهذا ليس بالأمر السهل إلا في أوقات جد خاصة ولا تلزم أحداً فعلاً. العادة أنك تقومين ببعض تمارين الليونة ثم تحاولين الاندساس بين الجموع والوصول إلى العتبة، بعد قليل من الركض ممسكة بكل قوتكِ الحقيبة ومغلقةً جيوبك بإحكام خوفاً من النشالين. كلها رياضة في رياضة هذه المرحلة.
تتميز المرحلة الأخرى بالصبر، فقد ازدادت الاكتظاظات المرورية على محطات الوقود مؤخراً، ما يجعل كتاباً جيداً أو هاتفاً مشحوناً بالكامل المنقذ الوحيد. أولئك الذين يستسلمون في هذه المرحلة يضطرون إلى إكمال مرحلة جيدة من اللعبة سيراً على الأقدام.
المرحلة الثالثة هي الحاجز وهي تنقسم إلى 3 تحديات:
تحدي صبر آخر قد يماثل الأول أو يختلف عنه زيادة أو نقصاناً. كل الاحتمالات متاحة هنا كلعبة الورق بالظبط.
يأتي بعدها تحدي الاختفاء الذي يشابه الطميمة آنفة الذكر. إلا أنه يتميز بشكل من أشكال المباشرة، ما الذي عليك فعله بالضبط كي لا يلاحظك العسكري الذي يعاين جميع الركاب بأعين متفحصة؟ قد تفيدني هنا اللعبة الجندرية العظيمة التي يمارسها الجنسان على بعضهما منذ قرون وأنجو بجريرة الوداعة الأنثوية، لكني قد أقع ضحيتها إن أعجب في العسكري مثلاً، فيطلب هويتي.
التحدي الثالث، لعبة تدعى إخفِ مشاعرك، أنا اخترعتها منذ دخلت إلى فرع تحقيق للنظام أول مرة، تنص على أن عليك أن تعرف ما الشعور الذي يجب أن يظهر على وجهك. إذا افترضنا براءتك مما يسأل أو يتهم المحقق.
مثلاً اذا نظر العسكري الى هويتي ووجد اني من منطقة ما، وهو يعرف احدهم فيها إما من الأخبار او لكونه شخصية مشهورة بمعارضتها أو موالاتها. إذا سألني: أتعرفين فلانا “المعارض”؟ فعلي أن أظهر كرهي له لأكون بريئة في نظر العسكري.لاأما اذا سألني: أتعرفين فلانا “المؤيد”؟ فيجب أن أظهر سعادتي به وانشراح أساريري لذكره، فهذا يعني اني مواطنة صالحة مؤيدة.
الأمر إذا يتعلق بي وبقيامي بالتمثيل لأظهر كما يفترض العسكري وكما يفرض تأييد النظام من مواقف يجب ان أتبناها والا كنت ارهابية. والعكس بالعكس وهكذا دواليك. ومع أن هذه اللعبة يجب أن تغدو أبسط وأوضح وتكرر كل مرة لكنها لا تلبث تزداد صعوبة، اظهار الاسترخاء يبدو مستحيلاً أحياناً، وأنا كما يقول لي أبي عندما كنت طفلة أخرب أشياء المنزل: يكاد المسيء أن يقول خذوني.
ان اجتزت هذه اللعبة فالفلسفة وألعاب العقل هي ما يملأ وقتي مساءً ، حين أفكر بأي مسيئة شريرة مجرمة أنا وكل هذا الاتهام والخوف من حولي، وكيف تكون الشجاعة والإيمان والمبادئ يا ترى؟ وهل علي أن أفكر في كل هذا ولدي اللعبة الأكثر استجراراً للوقت على الاطلاق، تلك التي مللت منها ولم تمل منك، هل المياه مقطوعة؟ متى تأتي الكهرباء؟ كيف يأتيان معاً لأستطيع غسل الثياب؟ سأفكر باستكمال مغامراتي حين يتوفر المازوت أما والحال كذلك فالنوم استعداداً لتكرار المتعة المستمرة هو أكثر ما أحتاجه بعد كل هذا اللعب.