حماة بين مجزرتين
رغم مرور ثلاثة عقود على الأحداث التي عاشتها مدينة حماه، فإنّ العدد الحقيقي للضحايا الذين قتلوا على أيدي قوات النظام السوري ما زال غير معروف. يصرّ البعض على أنّ عدد القتلى لم يتعدى عشرة آلاف عضو من حركة الإخوان المسلمين، في حين يشدد كثيرون على أنّ عدد الشهداء المدنيين يربو عن الأربعين ألف. وبين كلمتي “قتيل” و”شهيد” فارقٌ واسعٌ، ليس أقلّ اتساعاً من الفرق بين الرقمين. بالطبع، ليست هناك أرقام دقيقة حتى الآن حول عدد ضحايا مجزرة حماة بسبب التعتيم الكامل الذي مارسه نظام الأسد طوال 30 عاماً منصرمة، ومحاصرة أبسط المحاولات لتوثيق أعداد الضحايا وأسمائهم.
قد تشترك حماة 1982 مع مثيلاتها من المجازر التي شهدتها الإنسانية بحجم التعتيم الإعلامي والسياسي الذي رافقها، لكن معظم هذه المجازر تنكشف للرأي العام بعد مدة زمنية قصيرة نسبياً، تترافق عادة مع زوال المجرم الذي نفذها، لكن مجزرة حماة تختلف عن كل هذه المجازر. فالمعلومات والتفاصيل المتداولة عنها ـ رغم مرور ثلاثين عام على حدوثها ـ ما تزال شحيحة نسبياً.
بالطبع هذا التعتيم ليس مرده فقط إلى منع الصحفيين من تغطية الأحداث حينها، بل إنّ وجهه الآخر هو تواطؤ سياسي دولي مبطن مع المجزرة، كان ثمنه غض البصر عن قرار الكنيست الإسرائيلي بضم الجولان رسمياً إلى إسرائيل بعد أن بقي منذ 1967 أرضاً سورية محتلة. قرار الضم هذا رأى النور في أواخر عام 1981 أي قبل بضعة شهور من المجزرة.
بالمقابل التزم السوريون في بقية المحافظات صمتاً مطلقاً إزاء ما كان يحدث في مدينة حماة، مدفوعين بالخوف والاستكانة، حتى أن بعض القرى في ريف حماة، كما يشير شهود عيان، رفضت استضافة نازحين من المجزرة بدعوى الخوف من المساءلة القانونية أمام النظام. وقد وجد أهل حماة أنفسهم معزولين ووحيدين بمواجهة آلة عسكرية فتاكة لا تميّز بين مدني وعسكري، فكانت النتيجة مجزرةً صامتةً، لم تبدأ بعض أطرافها بالتكشف حتى اندلاع الثورة السورية في آذار/نيسان 2011.
تقول أم أحمد التي هربت مع زوجها من جحيم حماة عام 1982: “بعد انسحاب الجيش خرجنا من بيوتنا إلى شوارع المدينة. كانت حماة مدينة مدمرة كلياً، الجثث في الشوارع، بعضها مطمور في مقابر جماعية، وبعضها متروك على حاله، أحياء بكاملها سويت بالأرض. أذكر أنهم أجبروا الجميع على الخروج في مسيرة مؤيدة وسط الخراب، وصورها التلفزيون السوري باعتبارها مسيرة تشكر القائد على تخليص الناس من عصابات الإخوان. كان هذا أكثر ما آلمنا.”
ومن الملاحظ أنّ المراجع الصحفية والبحثية عن مجزرة حماة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا تتعدى الصور الفوتوغرافية المسرّبة منها بضع عشرات، في حين أنّ الذاكرة الشعبية للمدينة زاخرة بالكثير من حكايا الأهوال التي يتم تناقلها سراً، وتلقينها للأبناء والبنات. يبدو هذا التداول السري لحكايا المجزرة كشكلٍ من أشكال الإدانة الأخلاقية لمرتكبي هذه الجرائم. ففي غياب محاكمات عادلة للمسؤولين عن المجزرة، أو توجيه اتهامات واضحة، لا يبقى أمام الناجين من المجزرة سوى تمرير حكاياتهم لجيلٍ أصغر، عساه يتمكّن من انتزاع بعض حقوقهم في مرحلة لاحقة.
أحد كبار السن ممن شهد أحداث شباط/فبراير 1982 قال إنّه كان يستمع خلسة لإذاعة بي بي سي العربية في الأيام الأولى للمجزرة، حيث كان يلتقط البث الممنوع في الليل. لكن نشرات الأخبار الإذاعية لم تأتِ على ذكر أيّ شيء عن حماة، بحسب ما يقول. ويضيف متسائلاً: “هل حقاً لم يعرف أحد حقيقة ما يحصل؟ لا أستطيع تصديق ذلك!”
تشير المراجع أنّ أوّل التقارير التي تناولت مجزرة حماة في الثمانينات أورده مراسل صحيفة النيويورك تايمز توماس فريدمان في كتابه “من بيروت إلى القدس” الصادر عام 1989، حيث يذكر أنّه “عندما وصلت حماة بعد شهرين من المذبحة، كانت آثار الدماء لا تزال تلون ضفاف العاصي، رأيت أحياءً كاملة مهدمة المباني، بدت المدينة كأنّ إعصاراً مرّ بها، لكن هذا الإعصار لم يكن من صنع الطبيعة.
ثم تتالت بعد ذلك التقارير الخجولة التي راحت تنبش في ركام مدينة صارت أثراً بعد عين، حيث غاب كل دليلٍ ممكنٍ.
فآلة القتل والتدمير مستمرة في طول البلاد وعرضها، تحصد يومياً عشرات القتلى، مستفيدة من ارتباك دولي يتراوح بين التغاضي والتواطؤ و – بعكس ما حصل في ليبيا والعراق – غياب النفط الذي أثار شهية الدول الغربية وحثها على التدخل العسكري.
واليوم كسبت الانتفاضة السورية معركتها الإعلامية بجدارة ضد إعلام النظام الحاكم المترهل، مستفيدة من التطورات التقنية الحديثة في مجالي الاتصال والإعلام. فمع بروز مفهوم “صحافة المواطن” التي تعاظم دورها في السنوات العشر الأخيرة والتطور من التدوين الإلكتروني إلى نقل شهادات العيان وتصوير مقاطع الفيديو، لم يعد قرار منع دخول وسائل الإعلام المستقل إلى “الأماكن الساخنة” قراراً ذا جدوى كما حصل في حماة.
لقد وضعت التغطية الإعلامية للمظاهرات في سوريا العالم أمام أزمةٍ أخلاقيةٍ حقيقية. فقد تغاضى السياسيون فيما مضى عن انتهاكات حقوق الإنسان بذريعة غياب المعلومات، أو تحت ذريعة أنّها حصلت في ظروف غامضة كما هو الحال في مجزرة حماة في الثمانينات. لكن اليوم باتت مصادر المعلومات مفتوحةً ومتاحةً للجميع، ما جعل الرأي العام العالمي في مواجهة مباشرة مع حقائق القتل اليومي. لقد ساهمت عدة عناصر في تطوير “صحافة المواطن” في سوريا خلال الانتفاضة، بدءاً بالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، مروراً بكاميرات الهواتف النقالة الحديثة، وصولاً إلى العامل الرئيسي وهو الرغبة القويّة لدى المواطن السوري بالتخلص من هذا النظام بأي ثمن كما تكرست مع مرور الثورة أسماء عديدة لناشطين ـ معظمهم لقي حتفه لاحقاً ـ كان همهم الأول ينصب على بث المعلومات عن المظاهرات والجرائم التي يرتكبها النظام سواء عبر تحميل مقاطع الفيديو أو عبر تأمين شهود العيان.
يذكر كثيرون أن التلفزيون السوري الرسمي الذي ألصق به السوريون تهكماً شعار “نحن الوحيدون ونحن الأفضل” قام في شباط/فبراير 1982 ببث مقاطع مسجلة من ساحة العاصي في حماة لإثبات أنّ لا شيء غير عادي يحدث في المدينة. حينها صدّق الآلاف تلك الكذبة الكبيرة، على الأقل إلى حين. اليوم يحاول النظام استنساخ نفسه بكامل الملامح، إذ يعرض التلفزيون الرسمي لقطات مشابهة لمدن هادئة، تمضي الحياة فيها دون حواجز ولا قذائف مدفعية. لكن الزمن تغير. فالمتظاهرون يصورون كلّ ما يقع تحت أيديهم من انتهاكات يومية ويبثونه، متحدّين بكاميرات هواتفهم رصاص القناصة وعصي الشبيحة.