حكايا سورية من الرقة ترويها تماثيل أم أحمد الصلصالية
لافا سلو
(الرقة، سوريا) – تبدو الحياة للوهلة الأولى طبيعيةً في مدينة الرقة، فالأسواق تبقى مفتوحة لساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، ويرتاد الناس المقاهي والحدائق العامة وهناك أيضاً الألعاب الترفيهية التي تُنصب للأطفال في الساحات العامة حيث يجلس أفراد العائلات فوق العشب. إلا أنه من الممكن أن يبدأ القصف في أية لحظة أو تحصل اشتباكات في بعض الأحياء. يسيطر على المدينة كتائب من المعارضة المسلحة مثل “أحرار الشام” و”الدولة الإسلامية في العراق والشام ” وعدد من المجموعات التابعة للـ”جيش الحر” مثل “لواء أحفاد الرسول”. وتحافظ القوات النظامية على ثلاث نقاط عسكرية في المحافظة وهي “الفرقة 17″ و”اللواء 93” ومطار الطبقة العسكري، الذي تنطلق منه الطائرات لقصف مدينة الرقة من وقت لآخر. الأهالي الخائفون من قصف النظام يجدون انفسهم مضطرين في بعض الأحيان للتغاضي عن تجاوزاتٍ قد ترتكبها بعض كتائب المعارضة المسلحة في الرقة، والتي تتمثل في الاستيلاءعلى ممتلكات عامة أو خاصة أو الاعتقال التعسفي لبعض الناشطين. وهناك أيضاً حالات الاختطاف التي يصعب تحديد مرتكبيها.
في هذه البيئة غير المستقرة بدأ المشوار الفني لفاطمة إبراهيم أو أم أحمد. هذه المرأة الكردية التي تجاوزت الخمسين من العمر، ولم تتابع سوى المرحلة الإبتدائية من التعليم، اختارت صناعة تماثيل الصلصال للتعبير عن ذاتها. تضع أم أحمد تماثيل الصلصال التي صنعتها بيديها على طاولة خشبية في زاوية الغرفة الصغيرة على سطح منزلها. لأم أحمد بشرة سمراء تتخللها بعض التجاعيد والوشم البدوي. وقد أصرت على أن تغير ملابسها عندما طلبنا منها أخذ صورة لها فارتدت عباءتها السوداء مع حجابها الأسود.
يتألف بيت فاطمة إبراهيم وعائلتها من غرفتين بفرش متواضع وغرفة عمل صغيرة على السطح. ابنة مدينة كوباني الكردية (عين العرب) تعيش على أطراف مدينة الرقة في منطقة عشوائيات تنتشر في أرجائها أكوام القمامة ويعاني سكانها من شحّ في المياه، هي وبناتها الخمس وأبناؤها الثلاثة وزوجها المُقعد . انتقلت أم أحمد من كوباني إلى الرقة قبل نحو عشر سنوات، ابنها الذي يعمل في لبنان يرسل لها النقود من وقت لآخر.
قادت الصدفة أم أحمد إلى التجربة الفنية. فقد أخبرتها ابنتها التي تدرس في كلية الفنون الجميلة في الرقة، بأنها تشارك في دروس عملية على الطين، فطلبت الأم من ابنتها أن تجلب لها الصلصال. وبدأت أم أحمد بصنع تماثيل منها. بعربيّتها “الرقّاوية” تقول أم أحمد: “لقد أعجبت بناتي بعملي وكن يقلن لي بأنه لا بد وأن أمنا قد درست التشريح”. تثق أم أحمد بتقييم بناتها وتقول بأنها تعرف بأنهن صريحات معها، وبأنه لو كان عملها غير جيد لما ترددن في قول ذلك.
تعبّر أم أحمد من خلال تماثيلها الصغيرة عن حالاتٍ إنسانية متعددة شهدتها بنفسها أو رأتها من خلال مراقبتها للأحداث عبر التلفاز. فلكل تمثال قصة. تشير أم أحمد إلى أحد التماثيل النسائية وتقول: “في هذه الأيام تجد امرأة على وشك الولادة مضطرة للجلوس والانتظار على الحدود. لقد دُمّر بيتها فخرجت منه وتشردت، ماذا ستفعل إذا جاءها المخاض؟ أين ستضع مولودها؟” تعبر أم أحمد عمّا تمر به النساء عندما تضطررن إلى اللجوء إلى دول مجاورة بتمثال على شكل امرأة تحمل ابنها وحبلها السري لم يقطع بعد. وتقول إن هذه المرأة ترفع مولودها إلى حضنها فهي جريئة وغير خائفة بالرغم من كل شيء. وهناك تمثال آخر لأم خائفة وأولادها حولها وهي تود الرحيل ولكن أقرباءها يمنعونها من ذلك.
لا تقتصر تماثيل أم أحمد على النساء فقط، فلها عملٌ يجسّد رجلاً بارز العضلات منحنياً على ركبتيه وقد وضع يديه خلف ظهره، عاجزا لا حول له ولا قوة بالرغم من قوته الجسديّة. وهناك رجلٌ آخر يحمل جثة طفل صغير قد يكون ابنه أو ابن جار له. وهناك أهل الحي الفرحين بقدوم الجيش الحر إليه و قد خرجوا لاستقباله بأباريق الشاي. و تمثال يصور إمرأة تسميها “زوجة خلف”، التي تخبر زوجها، الذي لا يؤيد النظام السوري ولا “الجيش الحر” والجالس لا يفعل شيئأ، بأن مزرعتهم قد أُحرقت. في تحفة أخرى تعبر أم أحمد عن هم كثير مما يراودها. تصور نفسها هي تطبخ وتضع يدها على خدها و تفكر متى سيبعث لها ابنها المصروف.
تصنع أم أحمد تماثيلها من الصلصال بعد خلطه بالغراء، وتضعها على قاعدة خشبية ليسهل حملها: “أضع لها الغراء وألوّنها، وبعض منها غير ملوّن، إنها بلون الدخان، أستخدم الألوان التي تعبر عما تشهده الرقة”.
أم أحمد الفنانة الفطرية التي اكتسبت خبرتها عن طريق العمل المتواصل استطاعت أن تعبر عن نماذج إنسانية عميقة ومتنوعة من نساء ورجال وأطفال. وهي ترغب في أن يتعرف الناس على أعمالها، ولا تبخل بعيّنات مجانية لفنانين أو لمنظمات كالاتحاد النسائي مثلاً وجمعية الصم والبكم أو المراكز الثقافية في الرقة التي يمكن أن تساعدها في التعريف عنها والترويج لأعمالها، كما تأمل أن تتمكن من بيع تحفها الفنيّة الصغيرة في المستقبل. أما في الوقت الحاضر فإن الأوضاع المعيشية الصعبة في الرقة تحول دون بيع تماثيلها.
تتمنى أم أحمد أن تتمكن من إرسال أعمالها إلى خارج سوريا وتقول متفائلةً “وعدني أحد الرسامين المعروفين في الرقة بأن يكون لنا معرض مشترك لتماثيلي ورسوماته”. واشتركت أم أحمد مع فنانين سوريين آخرين في معرض مشترك بعنوان “بانوراما الثورة من المهد إلى الشهادة” في مدينة الريحانية التركية الجنوبية.