حتى ألبومات الصور أحرقوها…
عدت وابنتي إلى بيت أهلي بعدما توفي زوجي. كان البيت يضج بالحيوية والسعادة والحب. لكن تدريجياً، بدأ الجميع يرحل بشكل أو بآخر. والدي ووالدتي توفيا، وبقية إخوتي، منهم مَن تزوج، ومنهم مَن سافر… بقيت في المنزل مع أخي (50 عاماً) وابنتي. ليبقى المنزل متنفساَ لجميع الإخوة والأخوات، فيعودوا إليه ساعة يشاؤون. يعودون لبيت الجد والذكريات…
في العام 2009 قمت بتجديد المنزل، من طلاء للجدران، إلى تغيير في الأثاث… حتى الستائر واللوحات طرّزتها بيدَي. علّقت صور الجميع بعد أن وضعتها بإطارات جميلة. رتبتها بشكل أنيق، كي أتأملها طوال الوقت… صور الوالد، الوالدة، الأخ الغائب، الأخت المسافرة، وابنتي التي تزوجت في ما بعد وأقامت في حلب. كل شيء أصبح جديداً وجميلاً، فازداد حبي لهذا البيت مراتٍ ومرات.
مضت الأيام حتى العام 2011… بدأت الثورة العظيمة وخرجت المظاهرات. وكنت من أوائل الداعمين للثورة والمشاركين فيها. فأنشأنا مجموعة لإعداد الطعام للجيش الحر، وزيارة أسر الشهداء والمعتقلين. بقي الجيش الحر مسيطراً على القسم الأكبر من المدينة، لكنه ليس بالقسم الأهم، فمرافق المدينة والدوائر الحكومية وأفرع الأمن كانت بيد النظام.
في أوائل شهر آذار/مارس العام 2012، بدأت وسائل الإعلام المحلية تبث أخباراً بأنّ النظام سيقوم بإرسال قواته إلى مدينة إدلب، “كي يتخلص من المسلحين والإرهابيين”. ذهبت مع أخي إلى بيت أختنا، كي نبقى مجتمعين في ذات المكان، في حال اجتياح قوات النظام للمدينة. غادرتُ بيت أهلي، ولم أكن أتوقع بأنني راه لآخر مرة !
يوم العاشر من آذار كان مشؤوماً. استيقظنا على أصوات الإنفجارات والرصاص، وقطعوا عنا الماء والكهرباء وكل وسائل الإتصالات.
طلبت من أخي أن يرتدي بنطالاً من الصوف تحت بنطاله الجينز، وأن يرتدي عدة جوارب فوق بعضها البعض، لأني كنتُ أتوقع أن يتم اعتقاله! كيف لا وهو من عائلة معروفة بمناهضتها للنظام؟! قدمت عائلتي تسعة شهداء في الثمانينات (أحداث حماه)، وها هي تقدّم في الثورة ما يزيد عن الخمسين شهيداً…
وضعَ أخي مبلغاً من المال في جيبه، وجلس ينتظر بوجهٍ شاحب ورعبٍ قاتل، رغم أنه لم يشارك بالحراك لا من قريب ولا بعيد! بقيتُ مع أختي متماسكتين حتى لا نزيد من خوفه وتوتره، حتى اللحظة التي خلع فيها خاتمه الفضي وأعطاني إياه… حينها أجهشنا بالبكاء وعدنا لقراءة القرآن والدعاء، فلم يكن بوسعنا أن نفعل أي غير ذلك!
لم يحن دورنا بتفتيش منزل أختي حتى عصر اليوم الثاني. دخل بضعة عناصر إلى البيت، بعد أن اطمأنوا بأنّ إسم صاحب المنزل المكتوب على جرس الباب، ليسَ من عائلة إرهابية. وحين رأوا الصور المعلّقة على الجدران لأبناء أختي، وهي صور تدل على أننا غير متدينين، قال أحدهم بصوت كريه: “يظهر عليكم أنكم تحبون بشار!”. لم يطلبوا منا البطاقات الشخصية الحمد الله… وخرجوا من المنزل. نعم خرجوا وأنقذ الله أخي… أغلقنا الباب وعانقناه ورحنا نبكي مرة أخرى! لو كان بمقدوري أن أصرخ بهم لقلت: “انصرفوا… أنتم لا تمثلون الجيش السوري… أنتم ميليشيا، أنتم عصابة! لعنكم الله ولعن زعيم عصابتكم بشار الأسد”. لكنني لم أستطع…
مرت ثلاثة أيام، وجميع الأهالي في بيوتهم، لا يغادرونها ولا يعرفون ما يحصل في مدينتهم، إلا من خلال النوافذ وبحذر شديد… بعدها، بدأ الناس التحرك تدريجياً بحذر، وراحوا يتجولون في المدينة… ويتناقلون الأخبار عن آثار الدمار الحاصل بعدما سيطر النظام على إدلب.
في اليوم التالي، زارنا إبن صديقتي وأخبرنا أنّ الجيش أحرق عمداً بيوتاً كثيرة في المدينة، من ضمنها بيتي! واصطحبني إلى البيت…
لم أنسَ أن آخذَ معي المفتاح… ولم أكن أتوقع أنه لا حاجة للمفتاح بعد اليوم! رائحة الحريق سبقت وصولي المنزل، كان كل شيء أسوداً! تحوَّل كل شيء داخل المنزل إلى أكوام من الفحم… تصغر أو تكبر، بحسب حجم الأشياء التي احترقت. احترقت الأبواب، وبعضُها سقطَ والبعض بقيَ مُعلقاً… الأسقف… كل شيء احترق!
هرعتُ إلى غرف النوم، فهي بعيدة نوعاً ما عن الغرف الرئيسية التي أشعلوا فيها الحريق. بحثاً عن سندات الملكية، الشهادات، جوازات السفر، وكل الوثائق المهمة في حياتي وحياة إخوتي… لم أجد شيئاً! الجندي الحقير أفرغ كل ما في البيت من أوراق وأحرقها، حتى ألبومات الصور أحرقوها… أتمنى أن يحرقَ الله قلوبهم.
للأسف، علمت في ما بعد، أنّ إحدى الجارات التي كانت بالأصل غير محبوبة من جميع الجيران، ومعروفة بسفالتها وغبائها… هي التي أوشت للعناصر بأن “صاحبة البيت المغلق في الطابق الثاني إرهابية”. لذا صعدوا إليه مرةً ثانية وأحرقوه.
احترقَ بيت العائلة وبقيت الذكريات… استمرت الثورة، وما زلنا نتمنى أن يذهب بشار الأسد.
غادة السيد عيسى (59 عاماً) من ادلب، تقيم حالياً في غازي عنتاب في تركيا. تخرجت من جامعة حلب كلية العلوم قسم الفيزياء و الكيمياء. أم لابنة واحدة.