!ثورة من أجل الحب أيضا

صبا بردا

قصص الكر والفر والتشرد المستمر أصبحت مشتركة بين الجميع . أقضي أيامي بين المخيمات والاجتماعات والمظاهرات. أصبحت حياتي جزءاً من هذا الحراك ولا مجال لأي نشاط آخر. فأي عمل أقوم به، بغض النظر عن طبيعته، مرتبط بشكل أو بآخر بهذا الحراك. أتلقف ما أقدر أن أحصل عليه من مال هنا وهناك. أقوم بأي عمل يدر علّيّ المال. أنا وأصدقائي ملاحقون أو هاربون أو لاجئون أو ناشطون، أو كل هذه الأشياء مجتمعة.

لوحة للفنان غيلان الصفدي

تئن أناملي التي اكتوت من البرد والصقيع، تستجدي بعض الدفئ يحمله جسد آخر. غالباً ما يكون ذلك القلب قريباً جداً وغريباً جدا. غيرّت الثورة مقياس الصداقات والمعايير التي أستخدمها لتصنيف الناس من حولي. أصبحت أستيقظ صباحاً لأجد مجهولاً يغط في نوم عميق على أريكتي، في بيتي المشترك مع الأصدقاء، حيث تعودنا أن نعيش سوية متغاضين عن الفروق في الجنس والدين وحتى الإنتماءات الفكرية. أحياناً، أخلص إلى أن ذلك المجهول بلا شك أحد أولئك المشردين الذين يجدون مأوى مؤقتاَ لهم في بيتي. نستقبل بعضنا البعض كأننا نعرف بعضنا منذ سنين طويلة، ويمكن أن يكون الآخر صديق صديق أحد أصدقائنا. هكذا أصبحت الصداقة تتخذ شكلاً مختلفاً. فهي تحدث بسرعة وتنتهي بسرعة أيضاً أحياناً. في معظم الأوقات ألتقي بأحد ليغيب عني كلياً في غضون أيام قليلة، إلا أن ذلك لا يمنعني من التعامل معه بالانفتاح ذاته الذي أتعامل به مع صديق قديم. يعرف الأصدقاء الكثير عن بعضهم البعض وهذا ما يميزهم. أما اليوم، فيكفي أن تعرف مسقط رأس شخص ما في سوريا لتعرف تماماً كيف قضى أيامه الأخيرة أو شهره الأخير أو حتى كيف قضى السنة الماضية. هكذا تختصر جسر التعارف ببضعة أسئلة وتنتقل إلى التعارف الحقيقي الذي أصبح يهمك أكثر اليوم. بالطريقة نفسها أقع في الحب لأني أريد إشباع روحي الهائمة الجائعة للحرية والحب.

الحرية والحب لايختلفان كثيراً، على الأقل في الطريقة التي عليّ أن أتبعها للحصول عليهما. فنحن نبذل دمنا وروحنا وعرضنا وحياتنا من أجل الحرية التي تحيينا بكرامة، الأمر الذي هو فعلياً حقنا المشروع الذي خلق الكثير من الناس في بلدان أخرى ليجدوه جاهزاً وبانتظار أن يستمتعوا به فقط.

كذلك الحب. عليّ أن أغفر وأسامح كل الزلات وأسباب أوجاع القلب المزمنة التي لا يشفيها شيء، لابعد ولا زمان. هراء نقوله لنعطي أنفسنا دافعاً للإستمرار في العيش، فنحمل رفات قلوبنا المكسورة بين أيدينا ونمضي. ولانزال نبحث عن ذلك الدفئ السحري. نرفض أن نحيا دونه وترانا نموت ألف مرة ولاتزال قلوبنا تشتهيه وتبحث عنه رغم كل شيء. حتى في أيام الرعب والحرب لا يزال الحب يزهر في بلاد الموت، مثل الورود لا تقوى إلا على أن ترسل عبيرها وابتساماتها الرقيقة توزعها في كل مكان. لا حياة للورود دونها؛ فرغم الثلج المتراكم تجد دائماً زهور البيلسان طريقاً لتخرج إلى الشمس.

الحذر في الحب شر لا بد منه كما الحذر في الثورة. ينظر إلي صديقي، يقول لي وقد امتلأت عيناه بالضوء: “ليكي ! انا غرقان.” تهرب مني الكلمات. ماذا عساي أن أجيب فكل ما سأقول سيطفئ وهج السعادة التي تتأرجح في مقلتيه. علي أن أهيئ أسباب “استمراري” وإلا فلن يبقى أحد يحمل علم النصر في النهاية. “اي لا تحلف محلوف عليك! لك شو بدك بهالشغلة؟!” يدير وجهه بعيدا عني. أفهمه وأسكت. أبتلع الحكمة وأحشرها في جوفي كما أحبس البكاء يومياً.

منذ سنة و يزيد تتكرر هذه اللحظة مع الأصدقاء وكأنها لحظة عشتها من قبل؛ أعيشها مندهشة لغرابتها. أصبحت قلوبنا مثل الثورة، إما تفيض بالغرام أو جريحة خاوية يملؤها برد طلاق أو فراق. ماذا حصل لنا؟ من أين تدفق كل تلك المشاعر؟ هل ثرنا على أنفسنا بالفعل؟ هل كسرنا حاجز الخوف؟ الخوف على قلوبنا من الحب أيضاً؛ الخوف من أن نسمح له أن يخترقنا ويحتوينا ثم يقصينا؟ فهذه متلازمة تلك إن كنت ستعشق فأنت حكماً على درب جرح وشيك يشق وجدك أو شوق يحرقك ويعييك حتى تتمنى النوم دهراً أو حتى الموت. ثم في آخر لحظات الغرام والسكر ينضح سؤال مخمور كأنه نبض قلب كان قد أوشك على أن يفارق الحياة: “هي الثورة شو آخرتها؟”

صدقت العرب لما أجمعت على أن العشق داء وأنّ أنجع علاج لهذا المرض هو الجمع بين العاشق والمعشوق. ولكن في بلاد الموت، بلادنا، هل ظل من يعييه العشق ويضنيه حد المرض والوصب وقد كان عند العرب أشد مصاب. حتى أن قيس بن الملوّح نال ممن سأله عن حاله وعما أصابه من علة العشق وشتمه:

 “إذا أنتَ لم تعشق فتصبح هائمـاً ولم تكُ معشوقاً فأنتَ حِمـَـــارُ”

كتب أحد الأصدقاء على مدونته على الإنترنت: “يللي بدو يكتب شي عن الحب والغرام يعني بدو يكون من عالم تاني وانا ما بحترمه.” لا يرى صديقي الرابط الذي بين الثورة والحب والموت.