تزوير الوثائق الشخصية منفذ آخر للحياة
بيروز بريك
“هم كبير انزاح عن صدري.” كرّرت هذه الجملة مراراً في مكالمات عديدة أجريتها على الهاتف وسكايب، بينما كنت أقدم شكري وامتناني للّذين سهلوا انشقاق أخي الأصغر جواد، المجند في حرس الحدود. استغرقت رحلة انشقاق أخي 21 يوماً، بعد أن ترك مخفراً لحرس الحدود على الحدود اللبنانية ووصل إلى معبر قرقميش المحاذي لبلدة جرابلس السورية على الحدود التركية. اضطرخلال هذه الرحلة للتنقل على عدة مراحل والتخفي من وقت لآخر، وكانت بحوزته بطاقة شخصية مزورة. شقيقي عبد السلام خاض التجربة نفسها، فقد انشق عن الجيش النظامي في شهر حزيران/يونيو من العام 2012 واستطاع المرور على سبعة حواجز للجيش والأمن السوري على طول الطريق الواصلة بين دمشق وتل تمر في محافظة الحسكة، دون أن يكتشف عناصر الأمن أن بطاقته الشخصية مزورة.
مع بدايات الصيف الدمشقي الملتهب العام الماضي، أيقنت أن بقاء شقيقيّ في الجيش أمر عبثي وغير محمود العواقب. فقد زالت كل الآمال بتسريحهما بعد انقضاء فترة خدمتهما العسكرية الفعلية، وكانت قد احتدمت المعارك في ذلك الوقت على أطراف دمشق. فبدأت بالتخطيط لهروبهما وكانت الخطوة الأولى تركي عملي في حرستا في مصنع لألبسة الأطفال، الذي كان يعيقني عن التحرك. ثم عملت على تأمين بطاقتين شخصيّتين مزورتين لهما، ودفتر خدمة عسكرية يحمل تأجيلاً دراسياً لشقيقي جواد نظراً لصغر سنه.
استطعت الحصول على وثائق زورت بإتقان بحيث لا يتم التمييز بينها وبين الأصلية، وصرت مطلعاً على بعض أسرار ما بات يعرف أخيراً بـ”سوق التزوير السورية،” التي ازدهرت في ظل تزايد عدد المطلوبين والمنشقين عن الجيش. وبات الحصول على وثائق مزورة بالنسبة إلى عدد كبير من الناشطين السوريين وسيلة لا غنى عنها للتحرك بأمان، فأسماؤهم مدرجة في قوائم المطلوبين مع عشرات الآلاف الآخرين.
كانت بداية تحركي لإنقاذ شقيقيّ الاتصال بأحد أصدقائي من ناشطي الحراك الثوري، الذي نصحني باستصدار بطاقات شخصية مزوّرة عن طريق شبكة يديرها مهندس يطلق على نفسه اسم عصام. وزودني برمز للتعارف أثناء الاتصال، وهو إلقاء تحية خاصة، كي يأمن عصام جانبي ولا يتطرق إلى التفاصيل والأسماء على الهاتف.
التقيت بعصام في مقهى من مقاهي دمشق القديمة بعد أن رفض الالتقاء بي في البيت الذي كنت أستأجره، وعرض علي نماذج من بطاقات شخصية مزورة. طريقة عصام في الحديث كانت توحي بأنه شخص ثوري يساند الحراك، وأن الدافع الأساسي لديه هو خدمة الثورة وإنقاذ حياة الآخرين. وقال المهندس إن المبالغ التي يأخذها من طالب الهويات هي دعم لوجستي للورشة التي تصنّع البطاقات الشخصية. سلّمني عصام بطاقتين مزوّرتين بعد أربعة أيام وعلى كل منهما صورة حقيقيّة لأحد أخويّ، لكنها تحوي بيانات شخصية مغايرة.
اعتمدت أيضاً على خياط في قرية بريف الحسكة يمتلك مواهب كثيرة من ضمنها موهبة الرسم وتزوير الأختام، وقصدته لكي أزوّر دفتر خدمة العسكرية. يقوم عبد القادر بتمرير بيضة مسلوقة على الختم الموجود على الصورة، فينطبع الختم عليها، ثم يمرّرها مرة أخرى على الوثيقة الجديدة لينقل الختم إليها، كما يبرع في استخدام ورق الكربون ورقائق النايلون في عمليات النسخ. قام عبد القادر برسم ختم متقن على صورة شخصية عائدة لأخي ثم ألصقها على دفتر خدمة الجيش عائد لشخص آخر. لم يتقاضَ مني عبد القادر أي أتعاب رغم إلحاحي عليه بقبول المال، وهو ما أثار استغرابي لأن وضعه المادي ليس جيداً. وهو لا يتلقى أي مبلغ مادي لقاء عمله لأنه يعتبر ما يقوم به خدمات للمحتاجين.
أغلب المزوّرين في سوريا حالياً جدد في المهنة، بينهم مهندسون وتجار عقارات وطلبة جامعات وخياطون. هناك أناس يقومون بالتزوير مجاناً لكونهم مرتبطين بجهات ثورية أو “الجيش الحر” وهناك آخرون يتلقون مبلغ 100 دولارعن كل هوية. أما جواز السفر فتتراوح كلفة تزويره من 700 إلى ألف دولار، إذ يختلف السعر باختلاف مهارة المزوّر، فهناك طباعات رديئة وأخرى أكثر اتقاناً. غالباً ما يتم تزوير دفتر الجيش بوسائل بسيطة لأنه ليس بحاجة الى تقنية معقدة، على عكس جواز السفر والهوية.
في لقاءات عديدة مع أصدقاء لي ناشطين في المعارضة، نناقش موضوع مزاولة أمور غير قانونية بحكم الضرورة. موقفي متضارب بعض الشيء. أقول لهم إنني سأعمل حتى آخر رمق لاستئصال الفساد والتزوير ولكني سأظل ممتناً لأولئك الأشخاص الذين أنقذوا آلاف السوريّين من براثن الموت المجاني في صفوف جيش النظام.
صديقي الصحفي حاتم يقول إن تصنيع الوثائق المزورة جزء من منظومة الفساد ولايمكن تبريره إلا في نطاق إنقاذ حياة إنسان من الهلاك، ويستطرد قائلاً: “عدا عن ذلك لايمكن قبول هذا العمل.” أما جودت وهو ناشط ولاجىء في غازي عنتاب بتركيا فيتناول موضوع التزوير ببراغماتية أكثر ويراه إجراءً مؤقتاً، ويتابع قائلاً: “كل الهويات السليمة والمزورة ستتلف في المستقبل.” ويضيف مبتسماً: ” ستكون هناك هويات جديدة لكل السوريين.”
يعبّر ناشطون آخرون عن مخاوفهم من أن استفحال ظاهرة التزوير قد يؤدي إلى نشوء شبكات تعمل بحرفية ووسائل مبتكرة، لا يقتصر عملها على المرحلة الاستثنائية التي يمر بها السوريون حالياً، فتصبح هناك بؤراً للأعمال غير القانونية في سوريا المستقبل. لكنني متأكد من أن آلافاً من الجنود والناشطين السوريين قد استطاعوا الهروب من جحيم جيش النظام بفضل المزورين وهناك آلاف التجارب التي تشبه تجربتي.