تحت رحمة القناص
ورد العاصي
أعرف صديقي محمد سعيد (30 سنة) منذ زمن طويل بسبب العلاقات المشتركة مع الأصدقاء في دير الزور ودمشق. تخرّج من كلية الحقوق ولم يمارس مهنة المحاماة بل عمل في مشاريع تجارية صغيرة. مع بداية الثورة عاد إلى مسقط رأسه ديرالزور ليعمل مع بعض الشباب المدنيين على توثيق وتصوير الانتهاكات والجرائم ضد المدنيين. وها هو اليوم يقع ضحية إحدى هذه الانتهاكات ليكون شاهداً على نفسه وعلى القناص الذي أصابه. تحدثت مع محمد عن طريق سكايب من خلال إحدى التنسيقيات في دير الزور وروى لي ما عاشه. كان في بيته عندما بدأ هجوم الجيش النظامي:
إنها القيامة أو ما يوازيها، سمعت صوت أكثر من مئة قذيفة وصاروخ ورصاصة. المباني كلها تهتز. لم أمت. لا أعرف عدد الناجين ولاعدد الشهداء. أعطيت نفسي مهلة لاسترجاع أنفاسي وطرد الخوف الذي زرعه أحد الصواريخ التي أصابت بناء أمام بيتي. شاهدته يخترق كل شيء. أرعبني وجعل قلبي كأنه يخرج من شدة الانفجار والضغط.
خرجت بعدما استتب الهدوء بدقائق لأتفقد المكان. اخترقت الغبار ومشيت فوق الركام. المشهد ليس بغريب علي، الموت كان قريباً جداً. تابعت المسير والقفز، وإذ بصوت رصاصة قناص تعيد إلي الخوف ثانيةً. تذكرت العبارة التي تقول: “حين تسمع صوت الرصاصة فإعلم أنك حي.” لم أعلم من أين خرجت لكنني أدركت بعد وقوعي أنها استقرت في مكان ما من جسدي. لم أعطِ القناص فرصة ليصيبني مرة أخرى. لم أعد اتذكر هل زحفت أم ركضت. أتذكر فقط أني أصبحت في مدخل بناءٍ قريب وجسدي دافئ.
أصابتني الرصاصة في فخذي. فكرت قبل أن أنزع كنزتي عني أنني ربما أموت من البرد إن فرطت بها. بحثت بين الركام عن شيء لكي ألف به الجرح وأوقف النزيف. وجدت كيساً كبيراً لففته أعلى الجرح ورفعت قدمي بانتظار حلول معجزة تُسقط القناص الذي يشرف على مدخل البناء. يحتوي هذا البناء على ستة محلات تجارية وعلى شقق سكنية وبعض العيادات الطبية والمكاتب كلها مهجورة.
حل المساء ببطء وما زال القناص يراقبني ويرسل لي بين ساعة وأخرى رصاصة تستقر بإحدى زواية الشارع ليعلمني بوجوده. كان يلاعبني وهو يعرف أني مصاب. هل سأغادر المكان حياً؟ هل أخرج لأواجهه بقدم واحدة وموت سريع؟
بدأ الجرح يؤلمني كثيرا وقلبي يزيد من نبضه والنزيف لم يتوقف تماماً. تذكرت شعراً يقول: ” أفضل ما في الطب العربي دواء النار.” أخرجت ولاعتي وأشعلت القليل من الأكياس والورق والخشب المتكسر في البناء ووضعت قطعة حديدية، وجدتها على الأرض، فوقها حتى احمرت وكويت الجرح.
تسللت العتمة إلى البناء وبدأت هواجسي تزداد عند سماع أي صوت. لم أخف من النوم في حياتي أكثر من هذه المرة. كيف لي أن أطرد أشباح الموت والدم والتنكيل من مخيلتي؟ وكيف لي أن أعرف أن الجيش النظامي لن يقتحم الحي ويصل إلي؟ تحلّق حولي كل الشهداء الذين وثقت استشهادهم بكاميرتي الصغيرة. وتذكرت كل الفيديوهات المسربة عن الإعدامات الميدانية. هل سأموت مقطوع الرأس؟ أم سيحرقونني؟ حاولت أن أفكر بطريقة إيجابية بالجيش النظامي لكي أواسي نفسي. أقول “لا” فهم أهلي، لابد أن يكون كل ذلك كابوساً، فهم أبناء سوريا، ولا يمكن أن يكونوا بهذه الوحشية. وأبكي بصمت. هل سيكون قاتلي سورياً أم إيرانياً؟ من هم القتلة الحقيقيون؟
لا أستطيع النوم. خطر لي وأصوات القذائف تزداد حدة أن أحفر قبري. ولكن لن أستطيع حفر قبر في الإسمنت. قررت بناءه فوق سطح الأرض كصندوق إسمنتي من الحجارة والحديد. رسمت صورته المتخيلة في ذهني لكي أباشر بالبناء عند طلوع الفجر. تخيلت كيف سأنام فيه بسلام. ودعت بيتي بصورٍ سريعة. ودعت أمي في محافظة الرقة التي تنتظر خروجي من الحصار. أما أبي فلم أستطع وداعه خوفاً عليه من ذبحة صدرية.
تمنيت لو كنت مسلحاً لا ناشطاً مدنياً، لا لأدافع عن نفسي وإنما لأقتل نفسي برصاصة حين يصلون إلي. فلا أود أن أعرف مصيري بعد أن أقع في أيديهم. أفضل الموت بيدي لا بيد مجهول. هكذا قضيت ليلتي.
القناص مجدداً والقذائف والصواريخ مرة أخرى. تذكرت أنني حلمت بالخروج بعد أن ازحت الغيم وسقطت على الأرض. كيف لم يخطر ببالي أن هذا البناء يفضي إلى الشارع الآخر؟ خلف ذلك الجدار يقع الشارع الآخر. إذاً سأستغل القصف وضجيج الطائرات لأكسر الجدار بسرعة.
باشرت بانتقاء الحديد المناسب لكسر أحد اقفال المحلات لكي أستطيع الدخول إليه وكسر الحائط الذي سيقودني إلى الحياة. مرت ثلاث ساعات بين يأس وألم الإصابة وبعض الحروف التي كنت أدونها على حائط المدخل بعد أن اعتبرتها شاهدة قبري إن لم أفلح بالخروج. أخذت القليل من الاستراحات وأكملت محاولات فتح قفل المحل. ها هو يفتح لتنفتح طاقة جديدة من الأمل.
دخلت المحل التجاري بعد أن استجمعت قواي ووقفت. أزحت مكتب المحل جانباً وحاولت بأكثر من ست أداوات ثقب الحائط، ولم أفلح. قررت أن أعمل بسرعة كي لا أنام لليلة ثانية هنا. حملت الكرسي الدوار الذي وجدته في المحل التجاري وفككت القاعدة الحديدية عنه. بدأت بضرب الحائط. ومع كل ضربة كنت أقرأ الشعر. لم أفهم هذه الآلية الدفاعية، ولكن كنت أعرف أنها تطرد شبح الكوابيس عني. غنيت أغاني للأطفال بصوت عال وناديت على كل من حفظت أسماءهم. كسرت إحدى الطوبات المثبتة في الحائط. استرحت مرة أخرى. قمت وكانت قدمي قد تورمت كثيراً ولون الجرح أصبح مقززاً. عليّ أن أكمل التكسيرفهو سبيلي الوحيد. مضت ساعتان تقريباً وإذ بي أرى الشارع من فتحة تجاوز حجمها العشرة سنتيمترات. أحسست أنني بحار وقد اهتدى إلى اليابسة. الألم أوقفني قليلاً. أكره الشتاء لأن النهار فيه قصير. ليتني علقت هنا في الصيف. لم أشعر بالجوع أبداً أو العطش رغم جفاف حلقي تماماً. أكملت المهمة لثلاث ساعات والفتحة تتسع.
أصبحت الفتحة كبيرة تكفي لخروجي. مددت رأسي بخوفٍ وأصوات الاشتباكات قد عادت إلى مسامعي. ولكن لا فرق، إنها الحياة ولا بد لي أن أخرج. ليتني أستطيع الركض لأعبر عن سعادتي بدل هذه الأصوات البدائية التي أخذت أطلقها. قفزت على قدم واحدة وأنا أصرخ وأغني وأتمسك بالجدران ولا أصدق أن الشمس أمهلتني أقل من ربع ساعة وغابت. وصلت إلى الحي الذي يقع خلف حينا وكنت أنادي على أحد الشباب الذي أعرف أنه يتواجد في هذا الوقت في أحد الأقبية. لم أصدق أنه سمعني. خرج وأنا شاحب من الألم، حملني على ظهره وركض بي وهنا أغمي علي.
استيقظت بعد أكثر من 10 ساعات في أحد البيوت ووجدت طفلاً صغيراً يجلس في الغرفة ورجل أربعيني وامرأة. لم نتحدث مع بعضنا البعض. فضلت أن أغمض عيني لساعات أخرى. نمت بعد أن أعطاني أحدهم دواءً مسكّناً. كان جرحي ملفوفاً بعناية. في ظهيرة اليوم التالي غادرت البيت المضيف بعد أن شكرت أهله بكلمات قليلة.
فيما بعد عرفت أن طبيباً ميدانياً جاء وقام بعلاجي في بيت هذه الأسرة .