بين النزوح والعودة رحلة معاناة
قررنا أنا وزوجي النزوح إلى تركيا مع طفلنا الصغير. لم يكن قد مضى على محاولة نزوحنا إلى هناك سوى يومين. هي محاولة فشلت بعدما منعت السلطات التركية النازحين غير الشرعيين مثلنا من عبور الحدود.
الثاني من أيلول/سبتمبر 2013، كان تاريخ النزوح الأول من بلدتي كفر نبل إلى تركيا. اندلعت الثورة قبل ذلك بعامين، وقلبت حياتي رأساً على عقب. تلك الجرائم التي ارتكبها الجيش التابع للنظام الحاكم في دمشق وعمليات اعتقال المتظاهرين، والقصف العشوائي الذي استهدف منازل المدنيين. لم يعد أحد يجرؤ على التواجد في منزله خوفاً على نفسه وعلى أطفاله. التشرّد لم يكن من نصيبي وحدي بل كان نصيب الجميع.
أذكر في ذاك التاريخ لحظة وصولي إلى معبر باب السلامة. هناك رأيت حشوداً كبيرة من الناس. كانوا يتزاحمون للدخول إلى تركيا. كان من الصعب جداً أن يدخلوا، فجميعهم لا يحملون جوزات سفر. اضطررت للدخول بجواز سفر مزور يسمح، لي بالدخول فقط دون أن أعود بواسطته. في تلك الأثناء كان يجب علي أن أمر على ثلاثة حواجز للجمارك التركية لصك ختم الدخول على ذلك الجواز. بدأ قلبي بالخفقان من أول حاجز وقفت عنده. دقّقت الشرطة التركية مراراً وتكراراً بتلك الصورة التي كانت على الهوية وبوجهي. وتمكنا من العبور.
بعد عبور الحدود كان لا بد من مكان نأوي إليه. بالإشرة تفاهمنا مع بعض الأتراك لنشرح لهم حاجتنا لمنزل. وكان أجر المنزل الذي انتهينا إليه مرتفعا جداً مقارنة بسوريا. كان المنزل خالياً من أي أثاث عند دخولنا إليه. كنت منهكة متعبة ألهث بشدة. وضعت إحدى الحقائب التي كانت معنا على الأرض، لأرتاح عليها ريثما أرضع طفلي الذي كان يبكي كثيراً من شدة جوعه. حلّ المساء فكانت عباءتي هي الفرش لي ولطفلي، وبضعة ملابس قديمة بدل الغطاء. أما زوجي فقد بقي ساهراً يعاند قساوة البرد. لم أستيقظ إلّا على صوت طرق الباب. فتحت الباب لأرى امرأة تركية، ألقت التحية علي وبدأت التكلم فلم أفهم عليها شيئاً. دعوتها للدخول بلغتي الجديدة، لغة الإشارة. كانت صاحبة المنزل الذي يجاورنا.
عندما رأت جارتنا التركية واقع حالنا في ذاك المنزل الفارغ، عرضت علينا منزلاً، ولكن لمدة 3 أشهر فقط، ودون بدل إيجار. كان ذلك المنزل عبارة عن غرفة واحدة مليئة بالخردوات. وضعت فيه تلك المرأة كل الأشياء التي لا تلزمها، وفي كل زاوية من زواياها يوجد عنكبوت قد بنى عشه ليستقر داخله. أخرجت كل ما يوجد بداخل تلك الغرفة وقمت بتنظيفها. عندما انتهيت من تنظيفها أحضرت تلك المرأة كل ما يلزمنا من فراش وأدوات مطبخ وغيرها. انتهيت من تنظيفها وترتيبها بعد مشقة طويلة وتعب كبير دام لساعات. مرت الثلاثة أشهر بلمح البصر، وكأنها سرقت منا. بعد أن مضت لم يكن بوسعنا أن نستأجر منزلاً، فأجرة عمل زوجي الذي وجده هناك كانت قليلة جداً لا تكفي سوى طعام وحليب لطفلي.
لم يكن أمامنا من خيار سوى العودة إلى سوريا. فالعيش فوق تراب الوطن أرحم من مرارة الغربة. ولكن هذه المرة يجب علينا أن نعود بطريقة غير شرعية. على الحدود الكثير من المهربين الذين يتقاضون مبالغ كبيرة من النازحين. قام أحد المهربين بإيصالنا بجرار زراعي توقف فجأة بسبب الوحول المتراكم في الطريق. بقينا أنا وطفلي وزوجي مدة 9 ساعات تحت المطر ننتظر. كنت في ذلك الحين حافية القدمين بسبب فقداني لحذائي على تلك الطريق الموحلة. فجأة انطلقت صافرة إنذار. لم أعرف من أين مصدر صوتها؟ بدأ الجميع بالركض، وكل باتجاه مختلف، وأنا أيضاً ركضت حاملة طفلي الذي كان يبكي بشدة.
اصطدمت قدمي بصخرة، فسقطت على وجهي بالوحل. تلطّف بي القدر ولم يصب بطفلي بأذى، وغرق وجهي بالوحل والدموع. توقف صوت صافرة الإنذار، وبدأت الشرطة التركية بالنداء عبر مكبرات الصوت بأن نتوقف جميعاً. قام عناصر الشرطة التركية بتفتيش حقائبنا ملقين كل ما بداخلها على الأرض. قاموا بضرب زوجي وغيره من الشبان بشكل عنيف. بعد ذلك سمحوا لنا بعبور الحدود إلى سوريا عبر خندق يبلغ ارتفاعه 3 أمتار وعرضه 4 أمتار. لم يكن أمامنا من خيار سوى الدخول في هذا الخندق الذي يصل حدود البلدين. فهو الطريق الوحيد الذي سيوصلني إلى شاطئ الأمان. غصتُ حتى أعلى ركبتيّ بتلك المياه التي تجمعت بفعل المطر الذي هطل بغزارة لا توصف. كنت مضطرة إلى حمل طفلي بين ذراعي، فزوجي كان يحمل حقائبنا. بعد مشقة طويلة وصلت إلى الأراضي السورية. كنت أرتجف برداً ولكن فرحتي بوصولي جعلتي أنسى ذلك البرد.
الثالث من كانون الأول/ديسمبر 2013، تاريخ عودتي إلى وطني الحبيب سوريا، بعد أن عانيت من الفقر والشقاء في الغربة. أعاني اليوم وأتألم مثل كل نساء سوريا اللواتي ضحين وشعرن بالقهر وعانين جراء القصف المستمر الذي يلاحقنا ويلاحق منازلنا. ليصبح خبر التشرّد مجرد خبر مكرر تعودنا عليه مع الأيام. لن يدرك أحد حجم القهر الذي يشعر به من يهجر منزله وينزح ليعاني من جديد.
أمل الأحمد (24 عاماً) متزوجة وأم لطفل واحد وتعمل في موقع راديو فريش في كفرنبل.