بين الشرعي والمدني أي قضاء ستعتمد سوريا المستقبل؟
اختلف أبو صطيف، تاجر التبغ، مع تجار آخرين، اتهمهم بعدم تسديد ثمن 25 صندوق سجائر، فما كان منه إلا أن توجه إلى المحكمة الشرعية في بلدة باب الهوى، الواقعة في محافظة إدلب على الحدود مع تركيا، لتحصيل حقه.
في قاعة المحكمة الصغيرة، التي كانت في السابق إحدى غرف المخفر التابع لقوى الأمن الداخلي، وقف أبو صطيف يتبادل الاتهامات مع خصومه الثلاثة، أبو محمد وجعفر وخالد، الذين شاركوه في تهريب صناديق الدخان من تركيا، ولم يسددوا ما توجب عليهم عندما باعوا حصتهم. دافع أبو صطيف عن نفسه أمام هيئة القضاء المؤلفة من شاب يبلغ من العمر الثامنة والعشرين، عرّف عن نفسه باسم أبي عبد الله، وهو القاضي وصاحب الحكم النهائي، إضافة إلى رجل في الخمسين من عمره يقوم بتسجيل أحداث الجلسة فقط.
لم يحصل أبو عبد الله على منصبه القضائي بناءً على دراسته القانون أو مزاولته مهنة المحاماة في السابق، بل بناءً على قتاله في صفوف “الجيش الحر” ومعرفته بالشريعة الإسلامية. يقول أبو عبد الله: “صغر سنّي وعملي السابق في البناء لا يقفان عائقاً أمام عملي الحالي في القضاء، فالمهم لاستلام هذا المنصب هو معرفة شرع الله والحكمة والمقدرة على الإنصاف بين الظالم والمظلوم”. ويضيف أبو عبدالله أن المحكمة التي يعمل بها يمتد عملها ليشمل شؤون الإدارة المدنية في منطقة باب الهوى والقرى المحيطة.
هذه المحكمة هي واحدة من الهيئات الشرعية التي حلت محل المحاكم التي كانت تديرها السلطات السورية في محافظة إدلب، بعد أن أصبحت معظم هذه المحافظة تحت سيطرة المعارضة.
يقول أبوعبد الله إنه يسعى إلى نشر الشريعة الإسلامية، إلا أن المحكمة تتساهل في بعض الأحكام، خصوصاً إذا تعلق الجرم بالأوضاع الإقتصادية الصعبة التي يعيشها الأهالي. “قد نضطر في بعض الأحيان لإيقاف الحدود القاسية الثانوية كحد السرقة، فالكثير من ضعاف النفوس تسوّل لهم نفسهم السرقة لتأمين طعام أولادهم ومصروفهم اليومي، كذلك الأمر حد الزنى”. ويضيف أبو عبد الله بانفعال “بالمقابل لا يوجد تهاون إطلاقاً في حكم القتل، فالقاتل يقتل تحت أي ظرف كان”.
أشاد الكثير من سكان منطقة باب الهوى الذين التقاهم موقع “دماسكوس بيورو” بتطبيق الشريعة، وبكونها ضرورية لإصلاح سوريا.
تقول أم وليد، وهي ربة منزل في الخامسة والخمسين من العمر: “شرع الله نزل علينا كي يحد من الفساد الذي عشناه خلال الفترات الماضية لذلك لا يمكننا النقاش فيه وهو ما نريد، وكل شخص عليه أن يتحمل ما فعلت يداه”.
في مقابل هذا التوجه يقف دعاة التوجه القائل بضرورة اعتماد القضاء المدني في سوريا الحديثة، ويتلاقون بموقفهم هذا مع الأقليات التي لم تستطع تقبل فكرة الحكم بمبدأ واحد وهو الحكم الإسلامي، فالسيدة هيرمين وهي ناشطة حقوقية كردية، تعمل مع أكثر من جمعية أهلية في مدينة الرقة، ترى أن تطبيق الشريعة يضر بالأقليات الدينية والعرقية بالإضافة إلى المسلمين المعتدلين. فالقانون السوري لم يفرّق بين حقوق أي منهم في الماضي، بحسب السيدة هرمين، والتغيير الذي سيطال سوريا بعد نجاح الثورة يجب أن يطور هذا القانون. وتضيف السيدة هرمين: “غايتنا من الثورة الحرية وضمان حقوق الأقليات وعدم التفرقة بينهم، فالإسلام السليم فرض العدالة بين الجميع ومن غير المنطقي في هذا القرن أن نواجه بحكم إسلامي متشدد يجيز قطع اليد والرجم”.
يرفض أبو عبد الله هذا المنطق ويشدد على أن الإسلاميين في سوريا غير إقصائيين وقد حاولوا التحاور مع الأقليات لضمان حقوقهم تحت مظلة الشريعة الإسلامية وبمعزل عن قانون الأحكام الشخصية: “لا مشكلة لدينا مع من طالب بالإسلام الوسطي والدولة المدنية ونحن على استعداد للتحاور معهم على أن يثبتوا قوتهم على أرض الواقع”.
يقول أبو عبد الله إن المحاكم المدنية التابعة للمعارضة لم تلقَ دعماً من الشعب، متوقفاً عند ما وصفه بـ “التجربة الفاشلة” للتنسيق مع إحدى هذه المحاكم.
على الرغم من السيطرة الظاهرة التي يتمتع بها بشكل عام الإسلاميون في المناطق الشمالية التابعة للمعارضة، إلا أن الكثير من القرى والبلدات، مثل بلدة حارم في محافظة إدلب، رفضت تدخل المحاكم الشرعية في إدارة شؤونها القضائية وفضلت إنشاء محاكم مدنية تتبع القانون السوري ويعمل فيها قضاة ومدّعون عامّون منشقون عن النظام ويعملون ضمن “مجلس القضاء السوري الحر” .
واللافت أن هذه المحاكم تضم رجال دين مسلمين يختصون بقضايا الأحوال الشخصية، بينما المحاكم التي تقع تحت سيطرة النظام حتى الآن لا تضم أي رجال دين.
تنتشر المحاكم المدنية التي تديرها المعارضة في عدة بلدات في ريف إدلب مثل دركوش، وسلقين، وأرمناز، وبلدات في ريف حلب، مثل أعزاز، وأتارب. وعن آلية عمل هذه المحاكم، يقول المحامي محي الدين الذي كان يشغل في السابق منصب النائب العام في احدى المحافظات السورية، وهو عضو في “مجلس القضاء السوري الحر”:
“مرجعيتنا الحالية هي القانون السوري ريثما يتم استبداله أو تطويره بما يتناسب مع سوريا الحديثة، فالشعب السوري بأغلبيته يريد سلطة القانون كونه يشعرهم بالأمان والإنصاف”.
يضيف الاستاذ محي الدين: “لا وجود لسلطة قضائية بدون قوة على الأرض وهو ما يميز المحاكم الشرعية عن المدنية، لذلك نحن بحاجة إلى شرطة تدعم عمل المحاكم وتضمن عدم تدخل القوات العسكرية في عملنا، وسبب الضعف في هذا يعود لإهمال القيادات السياسية لموضوع القضاء، بالإضافة طبعاً إلى حاجتنا الضرورية إلى الكوادر والموظفين المؤهلين لإدارة الهيئات القضائية”.
هذه المشاكل واختلاف الآراء والتخبط في أنظمة الحكم التي ينشغل بها القائمون على المحاكم المدنية والشرعية، لا تعني لأبي صطيف وأمثاله من المواطنين شيء فهم بالنهاية يطالبون بحقوقهم البسيطة وتسوية مشاكلهم التي علقت لمدة سنتين وأكثر لتجد الحل لدى هذه المحاكم، فمشكلة أبي صطيف البسيطة المتمثلة بخمسة وعشرين صندوق دخان مهربة، لن تحتاج برأيه إلى قوى شرطة أو تعديل قانون أو فتوى شرعية، ولكنه لم يجد أمامه سوى المحكمة لتعطيه حقه البسيط باسترداد بضاعته كونه يؤمن أنها الجهة الوحيدة التي ستنصفه. وبالفعل، خرج من المحكمة راضياً بالحكم على عكس خصمه الذي اضطر إلى دفع مبلغ 15 ألف ليرة ثمناً للتبغ.