بعد عقد في السلطة، الجزء2: سوريا لا تزال مملكة الصمت

بعد عقد من حكم بشار، قد لا يكون دعاة حقوق الانسان، المعارضون السياسيون والمجتمع المدني، يخضعون لقمع عنيف بالدرجة التي كانت عليها خلال السنوات المظلمة من حكم والده، لكن أوضاع السياسي الداخلية في البلاد لا تزال  بالغة السوء.

في مقال نشر على نطاق واسع بعد فترة قصيرة من وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد، أكد السياسي السوري رياض الترك، الذي قضى ثمانية عشر عاما في السجن الانفرادي، بأن سوريا لا يمكن أن تبقى “مملكة الصمت”.

كانت رسالته الضمنية تقول بأن الزمن الذي كان فيه انتقاد السلطات يعاقب عليه بشدة، على وشك أن ينتهي.

الآن بعد عشر سنوات على هذا الإعلان، يخشى كثيرون بأن توقعات الترك لا تزال بعيدة جدا عن الواقع.

بعد عقد من حكم بشار، قد لا يكون دعاة حقوق الانسان، المعارضون السياسيون والمجتمع المدني، يخضعون لقمع عنيف بالدرجة التي كانت عليها خلال السنوات المظلمة من حكم والده، لكن أوضاع السياسي الداخلية في البلاد لا تزال  بالغة السوء.

يواجه النشطاء بانتظام الترهيب، الاعتقالات التعسفية وأحكام طويلة من السجن أو المنع من المغادرة وغيرها من الإجراءات التي تهدف إلى خنق حرية التعبير.

القبضة القاسية للمخابرات

تقدر منظمات حقوق الانسان اليوم عدد المعتقلين السياسيين في سوريا بثلاثة آلاف معتقل. لكن الحصول على رقم دقيق هو أمر مستحيل لأن الحكومة ترفض الإفصاح عن تلك الأرقام. الأغلبية العظمى من أولئك معتقلين على خلفية إسلامية. ثم يأتي المعارضون الأكراد وغيرهم من معتقلي الضمير والمعتقلون على خلفية انتقاد الحكومة.

فروع أجهزة الأمن القوية والمتعددة تحتفظ بقبضة شديدة على المجتمع المدني مانعة الأفراد غير الموالين لحزب البعث الحاكم من المشاركة بفعالية في الحياة العامة.

تلك السنوات الطويلة من القمع منعت المعارضة من أن تصبح ذات شعبية. واقع سيطرة الدولة على جميع وسائل الإعلام يجعل من الصعب للمعارضين التواصل مع الجماهير على الرغم من أن المواقع الالكترونية العائدة للمعارضة  تحاول التحايل على ذلك الواقع.

اليوم، لا يزال عدد من العوامل يعيق أي شكل من النشاط السياسي غير الموالي للأسد وحاشيته.

لا تزال حالة الطوارئ سارية في البلاد منذ عام 1963 مع قانون عقوبات يحتوي على مواد قانونية قاسية تستخدم كأداة لإرسال المعارضين إلى السجن فقط لكتابتهم مقالة رأي أو إجراء مقابلات تحتوي على نظرة ناقدة مع تلفزيونات ووسائل إعلام غير محلية.

خلال العام الجاري فقط، حكم بالسجن على ناشطين حقوقيين مرموقين هما مهند الحسني وهيثم المالح البالغ من العمر 78 عاما، لمجرد انتقادهما السلطات.

محكمة أمن الدولة تتابع إصدار أحكامها غير القانونية ضد الأصوات الناقدة، متهمة إياها بإضعاف الشعور القومي ونشر الأخبار الكاذبة.

الجماعات السياسية، وهي قليلة وتعمل في السر، ضعيفة لأن سوريا لا تزال لا تعترف بأي جماعة سياسية غير حزب البعث أو الأحزاب العاملة تحت مظلته. أيضا، منظمات حقوق الانسان وغيرها من المجموعات الحقوقية، لا تمنح لها التراخيص من قبل السلطات وبالتالي تجبر على العمل بشكل غير شرعي.

في تقرير نشر مؤخرا، قالت منظمة مراقبة حقوق الانسان ومقرها نيويورك، بأن الرئيس الجديد لم يتخذ أية خطوات جدية من أجل الشفافية أو الديمقراطية في بلاده. “بدون إصلاحات…إرث الأسد سيمدد بكل بساطة سياسة والده: الحكم عن طريق القمع” وفقا للتقرير.

مع غياب أي تصور حقيقي في سياسة الدوائر الداخلية للحزب الحاكم، من الصعب فهم منطق السلطات حول استمرار حالة القمع.

بعض المحللين، يقولون بأن التهديدات الخارجية التي واجهت سوريا خلال العقد الماضي، من احتلال العراق إلى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والمواجهة بين الغرب وإيران، دفعت النظام لزيادة حدة القمع من أجل المحافظة على الاستقرار.

آخرون يتحدثون عن صراع بين المحافظين “الحرس القديم” والإصلاحيين الذين فشلوا في تحقيق أبعد من الإصلاحات الاقتصادية.

ربيع دمشق

عودة إلى عام 2000، فإن المزاج الذي ساد عقب وفاة حافظ الأسد وخلافة ولده له بعد سلسلة من التعديلات الدستورية، كان يتمثل في انعدام اليقين حول المستقبل.

بالنسبة للعديد من المراقبين، كان تحول سوريا بحكم الأمر الواقع إلى جمهورية وراثية أمرا مثيرا للقلق. لكن الآمال كانت معقودة على الرئيس الجديد، جراح العيون الذي درس في انكلترا، لافتتاح عهد الحريات.

الأشهر الأولى من حكم الأسد خلال عام 2000 كانت بداية جديدة حيث ارتفعت الآمال بالنسبة للمجتمع المدني. خلال ما أصبح يعرف ب”ربيع دمشق” انطلقت عشرات منتديات الحوار في المنازل الخاصة حول البلاد.

مثقفون، وفيما بعد معتقلون سابقون، ناقشوا الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. أحد النشطاء الذين عايشوا تلك الفترة قال أن السلطات كانت متفاجئة برؤية الشعبية التي حازها ذلك الحراك خلال مدة قصيرة من الزمن.

وأضاف، بأن المجتمع المدني، انطلق بعد سنوات من القمع. “صحيح أن المنتديات لم تكن تشكل تهديدا حقيقيا للنظام، الذي عمل خلال عقود على تفكيك أي نشاط سياسي أو مدني، لكن الحكومة خشيت في النهاية من تلك الأصوات القليلة الداعية إلى التغيير”.

خلال عقدي السبعينات والثمانينات، نفذ المسؤولون الأمنيون إعدامات خارج القضاء وارتكبوا جرائم الاخفاء القسري لإسكات أي معارض للنظام. في فبراير 1982، قصف الجيش السوري مدينة حماة لتحطيم تمرد قام به الاخوان المسلمون، فقتل عشرات الآلاف من الأشخاص وفقا للتخمينات.

سيطر حزب البعث على جميع أشكال الحياة المدنية من النقابات وحتى البرلمان. على الرغم من أن مئات من المعارضين السياسيين أفرج عنهم بدءا من عام 2000، فإن السلطة صعدت بسرعة من عدم التسامح مع الدعوات السلمية للإصلاح التي وجهت تحت مظلة جميع الجماعات السياسية، من أكراد وعلمانيين وإسلاميين وغيرهم.

في آب2001، شنت السلطات حملة واسعة على المنتديات مجبرة إياها على الإغلاق، ومرسلة عشرات من ناشطيها إلى السجن. على الرغم من هذه الضربة الجدية، حاول بعض المعارضين الإبقاء على الحراك حيا. “لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا” أخذت على عاتقها مهمة نشر مفاهيم الديمقراطية في المجتمع ضمن دوائر صغيرة. لكن الموجة التالية من القمع أتت عام 2003 كنتيجة للاحتلال الأمريكي للعراق. ربما بسبب الإحساس بالتهديد الوجودي، استخدمت السلطات ذريعة “الخطر الخارجي” لتخنق بقوة أكبر أصوات المعارضين،  كما يقول أحد المحللين السياسيين.

“جيش النظام المشاعر القومية للسوريين، رابطا بين الديمقراطية التي انتهت باحتلال العراق وعدم الاستقرار هناك” كما يقول.

ازدياد حدة القمع

على أية حال، استمرت أشكال عديدة للمعارضة. للمرة الأولى منذ عقود ، يقوم مئات السوريون بين عامي 2003-2006 بالاعتصام في عدة مناسبات أمام البرلمان، محكمة أمن الدولة، والقصر العدلي. طالبت الاحتجاجات بالمزيد من الحريات، إطلاقا المعتقلين السياسيين، وإنهاء حالة الطوارئ. تلك الاعتصامات قمعت بشدة لكن يبقى أن مجرد حدوثها كان أمرا هاما آخذين بالاعتبار أن أي تجمع لأكثر من سبعة أشخاص هو أمر محظور في سوريا.

عام 2005، كان نقطة تحول مهمة. اغتيال الحريري الذي ألقي فيه باللوم بشكل واسع على دمشق، دفع المعارضين السوريين لتكثيف نشاطاتهم، معتبرين أن السياسة الخارجية للسلطة كانت تقود البلاد إلى عزلة دولية وإقليمية.

في أكتوبر تشكل إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، كتحالف كبير لجماعات معارضة، داعيا إلى التغيير الديمقراطي في البلاد. في ذلك العام أيضا، وقع مثقفون إعلان دمشق بيروت الذي دعا إلى علاقات صحية بين الدولتين الجارتين.

ردة فعل الحكومة كانت قاسية عبر الحكم على المثقف المعروف ميشيل كيلو من بين آخرين من الموقعين على ذلك الإعلان.

في نوفمبر، حكم كمال اللبواني، وهو ناشط مدني، بالسجن 12 سنة بعد عودته من رحلة إلى أوروبا وأمريكا حيث التقى بمسؤولين وتوجه بالانتقادات للنظام السوري.

على الرغم من أنه في أوقت أبكر ذلك العام، وعد حزب البعث بالسماح بتأسيس أحزاب سياسية والحد من استخدام حالة الطوارئ، لكن تلك الوعود لم تنفذ على الإطلاق. على العكس، يقول النشطاء أنه بعد عام 2005، بدأت أشكال جديدة من الترهيب، مثل الفصل من الوظائف الحكومية ومنع السفر.

عام 2007 تم تجديد ولاية الأسد لسبعة سنوات إضافية في استفتاء عام بنسبة موافقة بلغت 97 بالمئة من المصوتين. خلال ذلك العام ، كانت دمشق أيضا تخرج من عزلة دولية وعربية وأمل البعض بأن ذلك سيكون له تأثير ايجابي على التطورات الداخلية. لكن النظام السوري الغير آبه مضى قدما في اعتقال النشطاء.

حكم اثني عشر عضوا من إعلان دمشق بالسجن سنتين ونصف السنة. قائمة النشطاء الممنوعين من السفر في البلاد أصبحت أكبر، نحو 400 شخص تأثروا بهذه العقوبة.

“نظر النظام للانفتاح الغربي كضوء أخضر لقمع المجتمع المدني” يقول محمد العبد الله، معارض سوري مقيم في أمريكا، كان قد اعتقل مرتين في سوريا.

فجوة في جدار الصمت

اليوم، تصنف تقارير المنظمات الحقوقية الدولية سوريا كواحدة من أكثر الدول قمعا في العالم.

البعض مثل العبد الله، يعتقد بأن المجتمع الدولي أصبح أكثر التفاتا للأوضاع الداخلية في سوريا بفضل “تضحيات المعارضين داخل البلاد” ونشطاء المعارضة في الخارج.

لكن على الرغم من أن المجتمع الدولي يدين بانتظام حالات الاعتقال التعسفي في سوريا، فإنهم لا يضغطون بما يكفي على النظام من أجل تغيير سياساته الداخلية القمعية، كما يقول آخرون.

أحد التطورات الملفتة هذا العام، كان اعتراف الحكومة بالمجتمع المدني في عملية التنمية.

تحت إشراف السيدة الأولى أسماء الأسد، استضافت سورية مؤتمرا دوليا حول التنمية في سوريا للمرة الأولى في كانون الثاني المنصرم. لكن العديدين يرون في هذه المبادرة مراوغة لإظهار انطباع غير دقيق بأن سوريا تشجع المجتمع المدني.

قواعد المجتمع المدني العاملة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يتم تهميشها من قبل الحكومة، واستمرار الضغوطات الأمنية بالإضافة إلى الاعتقالات أدى إلى تداعي معظم مبادرات المجتمع المدني.

البعض يرى أن التغيير في سوريا سيحصل فقط مع إصلاح شامل للنظام “المبني على الفساد واحتكار السلطة والثروة”.

آخرون يعتقدون بأن المعارضة السورية تحتاج إعادة تقييم استراتيجيتها وأن تتعلم من خبرات السنوات العشر الماضية لاستعادة قوتها مرة أخرى.

بالسؤال حول ما إذا كانت سوريا لا تزال “مملكة الصمت”، يجيب المحلل السياسي بتفاؤل نوعا ما.

“لقد حصلت فجوة في جدار الصمت لا يمكن ردمها مرة أخرى” يقول، “أعداد معتقلي الضمير الذين يلقى بهم في السجون تظهر تصميم المعارضين السوريين للنضال من أجل حريتهم وحقوقهم مهما كان الثمن”.

لكنه أضاف بأنه مالم يصبح الحراك المعارض أكثر شعبية، فإنه سبقى من الصعب تحقيق التغيير في البلاد.