بعد التهجير موعد مع المصير المجهول

إحدى محطات النزوح الطويل تصوير إيهاب البكور

إحدى محطات النزوح الطويل تصوير إيهاب البكور

"يعم الصمت في الجلسة لتخرج أخيراً أم سعيد لتقول بتفاؤل للجميع "لن يتركنا المجتمع الدولي بمفردنا بمواجهة هذا المصير. يجب أن يجد حلاً لنا بإخراجنا سالمين من هذا المستنقع"."

مريم محمد

تفكيري ينحصر اليوم بمصير ولدي الإثنين. ثلاثة ملايين نسمة هنا يفكرون بنفس المصير. ليس جميعنا من إدلب على الرغم من وجودنا على أرضها.
أنا إدلبية متزوجة وأم لطفلين، والكثير من العائلات التي هجرت من مختلف المحافظات إلى إدلب (ريف دمشق وحمص وحماه وحلب) لديها نفس هواجسي عن المصير القادم الذي ينتظرنا.
تركيا التي وصفتنا بالأنصار أغلقت الحدود الشمالية بوجهنا. أصبحنا محاصرين من كل جانب، من الشمال تركيا التي أغلقت آخر المعابر بوجه الشحنات الغذائية والتجارية، ومن باقي الجهات ميليشيات جاءت من أصقاع الأرض، في السماء هناك طائرات حربية ما زالت تقصفنا. لم يبق هناك سوى الأرض التي نحنا عليها وربما لن تبقى لنا أيضاً.
يزداد التخوف لدينا من محرقة في المدينة، التي ناضلت لأجل حريتها لسبع سنين، هي الآن تنتظر مصيراً كمصير الموصل والرقة وغيرها من المدن التي هجر سكانها بحجة محاربة الإرهاب، الإرهاب الذي بات حجة الدول الكبرى للحفاظ على مصالحها في سوريا، دون الالتفات لمعاناة المدنيين المحاصرين والمعرضين للموت في أي لحظة
تساؤلات كثيرة لا نجد أجوبة عليها، هل الحل هو التهجير؟ لكن إلى أين؟ هل الحل هو هروبنا إلى تركيا التي بنت جداراً لمنعنا من العبور، وتقوم بقنص كل من يهرب من الموت. هل الحل هو عبور الحدود مع تجار البشر الذين يتصيدون الهاربين من الجحيم إلى مصائدهم، أو إلى القنص الذي ينتظر الكثير على الحدود.
جميع هذه الحلول، وغيرها أصبحت الهاجس الأكبر والوحيد لجلسات الجارات ونساء الحارات في مدينة إدلب.
أم سعيد نزحت من الغوطة الشرقية، واستقرت في إدلب مع أولادها الأربعة، تقول ام سعيد: “هذه المرة سيختلف الأمر. هنا في إدلب سنعيش تفاصيل الحرب بكل فصولها، في الغوطة كان هناك حل بالتوجه إلى إدلب الخالية من قوات نظام الأسد، أو إلى ريف حلب، أما اليوم يبدو أن جميع الحلول مغلقة في وجوهنا”.
تخالف المتفائلة أم خالد طروحات أم سعيد وترى أن هناك اتفاقاً في أستانة (مفاوضات بين الدول والمعارضة المسلحة لتخفيف العنف في سوريا) بين روسيا وإيران وتركيا يقضي بجعل إدلب منطقة خفض تصعيد، يجعل العيش ممكنا في المدينة التي مزقتها الحرب.
تقاطع الطالبة الجامعية هدى (22 عاماً) وتضحك بسخرية “أستانة قلتيلي أستانة” وبعد النظر في هدى من قبل جميع الحاضرات، بانتظار تعليل مقنع منها عله يعطي حلولاً ناجعة تجعل من الضياع أمراً ممكناً. تصمت هدى وتنظر بالجميع وتقول: “لن يكون هناك حل لنا، أستانة مجرد لعبة دولية لمواجهة الإرهاب، للانتقال لجبهة أخرى والعودة إليها في ما بعد.
لا تزيد كلمات هدى سوى الحيرة بين الجارات، التي تفكر كل واحدة منهن بحلول علها تنقذهن من المصير المجهول الذي ينتظرهن مع عائلاتهن.
يعم الصمت في الجلسة لتخرج أخيراً أم سعيد لتقول بتفاؤل للجميع “لن يتركنا المجتمع الدولي بمفردنا بمواجهة هذا المصير. يجب أن يجد حلاً لنا بإخراجنا سالمين من هذا المستنقع”.
تهز الحاضرات رؤوسهن بالموافقة، على الرغم من أنهن يدركن جيداً أن أهالي الموصل والرقة قد تركوا لمصيرهم، لكن كان لا بد في هذه العالم المجنون أن يكون هناك مساحة للتفاؤل.
أكثر المتضررين من العنف في سوريا هم الأطفال، أطفالنا الذين لا يدركون الواقع بكل سوداويته ورعبه القادم، لا يشعرون بالخوف حالياً سوى من هدير الطائرات، فهذا طفلي البالغ من العمر 3 سنوات يهرب إلى الصالون الذي يعتقد أنه آمن عند سماع هدير الطائرات. طفلي تعود على الهروب إلى الصالون بعد أن رآني أهرب إليه عدة مرات عند سماع الطائرات، هي ليست خطة وضعها للهروب بل أصبح يقلدني عند الخوف.
بينما أطفال أم سعيد ليس لديهم صالون للهروب إليه، والحل الوحيد مع الخوف من الطائرات هو زوايا الغرفة الصغيرة، والالتفاف حول أمهم المذعورة أيضا.
ترك الأهالي في المدن المحاصرة في ريف دمشق والموصل وأحياء حلب الشرقية وحيدين يواجهون القنابل والموت، وعبور ممرات الموت بحثاً عن منطقة أخرى لا يطاردهم الموت فيها، وهنا في إدلب، يبدو أن الموت سيطاردنا في هذه المحافظة الصغيرة، إن لم يتحرك ضمير العالم الذي لا نثق به لتجاربنا السابقة معه.