بانتظار الحقيقة
“هاد أقل شي بعملو لوطني.” بتلك العبارة اختتم صديق طفولتي علي اتصاله قبل أن يلتحق بالجيش يوم 14 آب/أغسطس 2012. إستدعي علي ليقاتل بين صفوف الفرقة الرابعة لكونه مقاتلاً في القوات الإحتياطية.
الفرقة الرابعة هي إحدى أعتى تشكيلات الجيش السوري وأكثرها تدريباً وتسليحاً التي يقودها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري. عرفت هذه الفرقة بولائها الشديد للنظام، وهي على رأس الفرق التي تخوض المعركة ضد كل من المعارضة المسلحة وغير المسلحة، وتقوم بأعمال قذرة وترتكب المجازر. لقد جعل النظام هذه الفرقة ملاذه الأخير، كما حرص أن تكون أغلبية أفرادها من الطائفة العلوية، فإن أبيدت وقعت فتنة لن تنتهي.
ولكن في الوقت نفسه لا أظن أن جميع عناصر الفرقة الرابعة هم مجرمون طائفيون متعطشون للدماء. من المؤكد أن الكثير منهم حالهم كحال علي، يتمتعون بصفات إنسانية ويؤمنون بوطنهم وبالدفاع عنه، وقد شاءت الأقدار أن يكونوا في ذلك الموقف المعقد؛ الإختيار بين مناصرة إما نظام دكتاتوري فاسد أو ثورة بات مسارها غير واضح بعد تسليحها. علي لا يثق بالثورة، ولكنه في المقابل ليس من مناصري النظام.
علي شاب في أوائل العقد الثالث من عمره، جامعي، مثقف، طيب القلب ويتمتع بحس دعابة. هو إبن عائلة سورية من الساحل سكنت في دمشق قبل مولده. ترعرعنا سوياً في حي عشوائي في العاصمة دمشق حيث أبناء الطوائف المختلفة يتشاركون الفقر والمحبة. كان يجيد كل الألعاب ككرة القدم، والسبعة احجار، و”الدحاحل”. عندما كنا في سن المراهقة، كان شكله الطفولي البريء يدفع أقرانه إلى استغلاله في سرقة الخيول من ساحة العيد. فمالك الحصان كان يظن أن علي طفل، فيعطيه الحصان وهو مطمئن أنه لايجيد ركوب الخيل. ولكن علي كان خيالاً ماهراً. كان يحتفظ بالحصان لساعات ليركبه هو وأصدقاؤه الذين لا يستطيعون أن يدفعوا كلفة استئجاره، وبعدها يعيده خلسة الى صاحبه.
قبل أن أترك سوريا منذ بضعة شهور لم أجد غيرعلي أوصيه بأمي وبكل ما بقي لي في بلدي، لأنه الوحيد القادر على حمل تلك الأمانة.
في بداية تلك المكالمة رجوته أن يعبر الحدود ويلتحق بي كي ينأى بنفسه عن أي قطرة من دماء السوريين الذين سوف يقاتلهم ولايعرض حياته للخطر باسم حماية الوطن، ولكنه رفض، واضعاً نفسه على سكة القدر، معتبراً دماءه ثمناً طبيعياً لحماية وطنه.
يوم 25 آب/أغسطس دخلت الفرقة الرابعة إلى داريا. في الفترة نفسها وقعت مجزرة حصدت المئات من الضحايا، وقد وصلت بعض التقديرات حول العدد إلى قرابة 700. كان ناشطو داريا خيرة شباب الثورة وأكثرهم سلمية، مما جعل هذه المدينة قدوة لباقي سوريا.
قيل إن المجزرة وقعت بعد فشل مفاوضات لتبادل الأسرى بين الجيشين النظامي والحر. لم يتوفر الكثير من المعلومات عن الذي حدث إلا من مواقع المعارضة والتقارير المخجلة لإعلام النظام، أشهرها التقرير التلفزيوني للصحفية السورية مشلين عازار من قناة الدنيا الذي كان يبعث على الغثيان. بينما كانت تظهر جثث رؤوسها مهشمة ويظهر أطفال أحياء بجانب جثث أمهاتهم بين الركام، كانت المذيعة تسأل طفلة بجانب جثة أمها: “مين عمل هيك بأمك حبيبتي؟”
تذكرت على الفور أن علي التحق بتلك الفرقة وراودتني أفكار مرعبة: هل فجر علي أحد هذه الرؤوس؟ هل قتل إحدى هؤلاء الأمهات؟ من الممكن أن يكون علي قد أرسل إلى هناك ولكن أن يكون من بين الذين ارتكبوا هذه الفظائع هو أمر مستحيل.
إن نجا علي سيخبرنا الكثير وإن لم ينجُ فأنا أعتبره شهيداً.