باب الهوى: التهريب النظامي

 رشا رامي

سبع عشرة ساعة قضيتها مع عائلتي في معبر باب الهوى الحدودي كانت مثابة تجربة حياة كاملة. بعد أن دخلنا من المعبر قبل ثلاثة أشهر بشكل نظامي إنتهت مدة إقامتنا في تركيا، فاضطررنا إلى العودة إليه مرة أخرى لتجديدها. لكن وفقاً للقوانين التركية الجديدة، لا يحق لشخص قضى ثلاثة أشهر متواصلة في تركيا العودة إليها مجدداً إلا بعد مرور ثلاثة أشهر أخرى. قد يكون القانون طبيعياً ولا غبار عليه، ولكن بالنسبة إلينا نحن اللاجئين، الذين اضطررنا إلى ترك سوريا بعد الحرب وليس لدينا مكان آخر نلجأ إليه، هو قانون مجحف.

عند محاولتنا العودة إلى تركيا وقفنا بالعشرات في طوابير مخصصة للنساء وأخرى للرجال عند نقطة العبور، بانتظار رحمة الضابط المسؤول عن ختم جوازات السفر. جلس على كرسيه الوثير في غرفته الصغيرة ينظر إلينا بتعالٍ واضح. كان يتركنا  لساعات ويذهب لشرب الماء أو تدخين سيجارة أو الحديث مع أحد أصدقائه دون أن يبدو عليه أي إحساس بالذنب لكون مصير العشرات وأمانهم متوقف على ختمه البسيط. فقد بات من المعروف لدى العابرين من نقطة باب الهوى أنّ دخول اللاجئين يتبع أهواء عناصر الأمن، حيث يقررون فجأة إغلاق البوابة فيضطر السوريون إلى النوم في الغابات حتى حلول اليوم التالي.

الصورة لاجئون سوريون عند معبر باب الهوى الحدودي – رشا رامي

أثناء وقوفنا في الطابور تقدم رجل من أخي وأخبره أنه يستطيع أن يؤمن لنا طريق الدخول مرة أخرى بعد أن رفض الضابط المسؤول ختم جوازاتنا. أبو سليمان تركي الجنسية وهو “سمسار عبور”، كما يلقب نفسه. “ولكنكم،” والحديث لأبي سليمان، “ستضطرون إلى البقاء في الجانب السوري لأقوم بتهريبكم في وقت لاحق بعد الإتفاق مع ضباط الحدود، وتكلفة التهريب 50 ليرة تركية للشخص الواحد،” أي ما يعادل تقريباً 28دولاراً أميركياً.

وبالفعل تم الإتفاق مع أبي سليمان لكون ذلك الحل الوحيد للعودة إلى تركيا، وذهبنا إلى الجانب السوري من باب الهوى، الذي يسيطر عليه الجيش الحر وبعض عناصر القاعدة.  بين عناصر المسلحين والعائلات التي تنتظر تقرير مصيرها تشعر وكأنك في دولة بعيدة عن أرض سوريا ولا تشبه أي مكان آخر.

إستمعت إلى أحاديث الأطفال والفتيات المراهقات التي دارت بالمجمل عن عدد الضحايا من القتلى والجرحى والمعتقلين في عائلاتهم، وعن عدد الدبابات المحروقة التي صادفوها في رحلتهم، ومواصفات الجثة المتفسخة. كانوا وكأنهم في منافسة في المعلومات العامة عن الحرب والقتل، دون أن يرف لهم جفن عند الحديث عن جثة أو مجزرة. تقول أماني، وهي فتاة في العاشرة من عمرها من مدينة إدلب: “إستشهد أربعة أشخاص من عائلتي بنيران قناصة. لم أحزن لموتهم ولكن حزنت لأني لم أكن أعرف كيف أسعفهم، لذلك قررت أن أمارس التمريض عندما أكبر، فالجميع يقول إن الحرب لن تنتهي بسرعة، لذا سأستطيع أن أنقذ أناس غيرهم.”

أماني ليست الوحيدة التي قررت مصيرها بعدما استطاعت أن تنجو بحياتها، فعبد السلام أيضاً، وهو فتى في التاسعة من عمره، قرر أن يلتحق بالجيش الحر عندما يبلغ الخامسة عشرة من عمره.

“أغلب أقاربي حملوا السلاح وأنا أيضاً أريد أن أحمي أمي وأخوتي من البراميل التي تلقى علينا،” يقول عبد السلام.”

أحلام خالية من براءة الأطفال، تبدو معقدة بالمقارنة مع حلم عائلاتهم بتأمين سقف آمن لهم.

رحلة العودة

بعد حوالي السبع ساعات من الإنتظار على الجانب السوري من الحدود، جاءنا أبو سليمان ليبدأ معنا رحلته اليومية في عبور الحدود بشكل غير نظامي. توقفنا مجموعتين عند الباب الرئيسي للمعبر التركي وسط أصوات السماسرة المنادين بأعلى أصواتهم وعلى مسمع من الجنود الأتراك: تكاسي تهريب، تأمين دخول غير نظامي،إلخ. عبرت المجموعة الأولى الحدود، وكانت مؤلفة من أربعة شباب وامرأة وطفلين.

المجموعة الثانية كانت تضمنا أنا وعائلتي. إتجهنا مع أبي سليمان مباشرة إلى البوابة التركية، وعيون الضباط الأتراك تراقبنا وكأن شيئاً لم يكن. عند البوابة، إستوقفنا أحد الضباط لمعاينة جوازاتنا فأخبره أبو سليمان أننا سنجلب سيارتنا من الكراج التركي لنغادر إلى سوريا، فما كان من الضابط إلا أن قال لأبي سليمان ضاحكاً: “إن لم يعودوا فأنت من سيدفع لي الغرامة المترتبة عليهم،” ثم تمنى لنا التوفيق في حياتنا الجديدة وتركنا نعبر نحو الأراضي التركية. عشر دقائق فقط كانت المدة التي قطعنا فيها الطريق التي تؤدي إلى داخل الأراضي التركية، ولكنها مرت علينا وكأنها ساعات.

إستطعنا والمجموعة الثانية أن نعبر بسلام إلى داخل تركيا، وبحسب أبي سليمان فهو يقوم يومياً بتهريب ستة إلى عشرة أشخاص يومياً.

والآن، من أجل تسوية أوضاعنا، أصبح علينا أن نخرج من تركيا خلسةً بعد ثلاثة أشهر ونحاول أن ندخل بشكل قانوني. لا أعرف كم مرة سنعيد الكَرَّة إن لم نستطع تأمين إقامة دائمة في تركيا، ولا أعرف عدد العائلات التي كتب عليها المصير نفسه.