انشقَّ زوجي عن النظام وعدنا إلى مدينتنا
جاء ذلك اليوم الذي كنا نخطط له منذ بداية الثورة، وهو يومُ انشقاق زوجي من عمله كشرطي يتبع للنظام الحاكم في دمشق برئاسة بشار الأسد… كان ذلك يوم الثلاثاء 3 تموز/يوليو 2012.
منذ أن اندلعت الثورة السورية، وأصبحت قوات النظام تمارس جميع أنواع الظلم والقهر ضد المتظاهرين السلميين الذين خرجوا منادين للحرية، كان زوجي يغضب مما كان يراه أمام عينيه من ظلم هذا النظام المجرم. لكن لم يستطع إظهار غضبه. مع ازدياد جرائم هذا النظام ومقابلته للمظاهرات السلمية بالرصاص الحي، قرّر زوجي الإنشقاق عنه، وقام بالتخطيط لذلك، لما في هذا الأمر من مخاطرة، خاصة مع بداية الثورة. فمن كان يُفكّر بالإنشقاق عن النظام، كان مصيره إمّا القتل أو السجن المؤبَّد مع التعذيب.
قبل الثورة، كنّا نسكن في شقة صغيرة بالإيجار في حي العامرية في حلب، وكنّا سعداءً جداً. لا ينغّص عيشَنا أي شيء، وقد مَنَّ الله علينا بطفلين كالورود. كانت أحوالنا المادية جيدة، فكنا ننتقي لهما أفضل الملابس والألعاب ونؤمّن كل ما يلزمهما، فقد رُزقنا بهما بعد حرمان أربع سنوات.
أمضينا في حلب مدّة أربع سنوات قبل الثورة، كنا خلال هذه الفترة نقوم بشراء ما يلزمنا من أثاث للمنزل، حتى استطعنا تأمين كل ما يلزمنا ولم يعد ينقصنا أي شيء.
وعندما قرّر زوجي الإنشقاق عن النظام المجرم واقترب ذلك اليوم، قال لي: “يجب أن توضّبي أغراض المنزل، سأنقلها بعد أسبوع إلى منطقة صلاح الدين”، أي إلى منزل يمتلكه خال زوجي، وقد سمح لنا بوضع أثاث منزلنا فيه. وبالفعل، بدأت بتوضيب الأثاث وطلبت من أختي أن تأتي لتساعدني في ذلك.
بعد خمسة أيام قام زوجي بنقل الأثاث إلى منزل خاله، ريثما يأتي الوقت المناسب لنتمكّن من نقله إلى كفرنبل. لكن للأسف، إلى الآن وأنا أنتظر هذا اليوم، والذي ربما لن يأتي، لأنه لم تسنح لنا الفرصة بعد بإحضار أي شيء من أثاث المنزل إلى كفرنبل، ولعلَّ التعبير” ضاع كل تعب العمر” مناسب في مثل هذا الموقف… لكن نحمد الله على كل حال.
غادرنا شقتنا في حي العامرية، تاركين ذكرياتنا الجميلة في كل ركن منها…. ذهبنا إلى منزل خال زوجي في صلاح الدين، وبعد يومين طلب مني زوجي أن آخذ الطفلين وأذهب بهما إلى مدينتنا كفرنبل.
رفضت في البداية، بسبب غياب الأمان في أنحاء البلاد، لكنه أخبرني أن شقيقته ستنتقل معي أيضاً لأنّ زوجها وهو في جيش النظام، قد قرّر الانشقاق كذلك… حينها وافقتُ على اقتراحه، وقام بالاتصال بأخيه ليُحضر لنا سيارة تُقلّنا إلى بلدتنا مع أطفالنا. وكان ذلك يوم الإثنين 2 تموز/يوليو 2012.
وبدأت رحلتي ومعاناتي مع طفلَيّ برفقة شقيقة زوجي وأطفالها الأربعة.اصطحبنا معنا بعض الأشياء الضرورية فقط، وحتى أني لم آخذ إلّا القليل من الملابس. انطلقت السيارة وكان على طريقنا العديد من حواجز النظام، والبعض منها أوقفنا والبعض الآخر لم يوقفنا. ومع عبورنا لكل حاجز، كنت أرتجف من الخوف ونبضات قلبي بسرعة البرق…
أخيراً شارفنا على الوصول إلى أطراف مدينة كفرنبل، وهنا بدأت حواجز الجيش الحر بالإنتشار من جانب وحواجز جيش النظام من جانب آخر، بحيث لا يرى أحدهما الآخر. وكان كل حاجز نقف عنده، يطلب هوية السائق وجميع الركّاب. حواجز النظام تبحث عن المطلوبين في المظاهرات، وحواجز الجيش الحر تقوم بمساعدة عائلات المنشقّين للوصول إلى مناطقهم.
بعدَ يومٍ عصيب، وصلنا إلى بلدتنا بعدَ طول غياب، حيث أننا لم نتمكّن من زيارتها منذُ دخول الجيش إلى المدينة في 4 تموز/يوليو 2011
.
وفور وصولنا، اتصلت بزوجي لأطمئنه. وعندما تحدثت إليه فرح كثيراً، وقال لي: “الآن صار بإمكاني المجيء إلى البلدة، وأنا مرتاح وقد أمّنتُ عليكم… ولم يعد هاماَ إن وصلت أم لم أصل، المهم أنكم بخير”.
بعد إنهاء المكالمة، شعرتُ بكثير من الخوف بداخلي مع أنه أخبرني قبل أن أسافر، أنه أمّن طريق سفره مع زوج شقيقته دون المرور على حواجز النظام، وذلك بمبلغ مالي كبير بالنسبة لنا، لأننا بقينا دون مورد.
لم يكن بمقدوري فعل أي شيء سوى الدعاء له أن يصل إلينا سالماً. وبقيت على هذه الحال طوال اليوم ولم أستطع أن أغفو ولو لنصف ساعة رغم مشقة السفر التي عانيتها… بقيت مستيقظةً حتى الصباح أنتظر بزوغ الفجر، على أمل وصول زوجي سالماً إلى أطفاله.
في يوم الثالث من تموز/يوليو، أشرقت الشمس وأنا ما زلت مستيقظة والدموع لم تفارق وجنتي لحظة واحدة في انتظار أي خبر عن زوجي، لكن غالبني النعاس وغفوت قليلاً. وإذ بي أستيقظ على صوته، وهو يكلّم ولدينا ويضمُّهما إلى صدره وكأنه لم يرهما منذ سنة أو أكثر.
كانت فرحتي لا توصف بوصوله ورؤيته سالماً بيننا، بعدما انشقَّ في ذلك اليوم عن النظام.
إلى الآن وأنا أحمدُ الله كثيراً أننا وصلنا جميعاً إلى مدينتنا وأهلنا، بسلام وأمان. مع أننا تركنا كل شيء وراءنا، ولم يبق لنا سوى رحمة الله معيناً ومعيلاً في هذه الحياة.
ماريا الأحمد (32 عاماً)، تحمل إجازة في الأدب العربي. متزوجة ولديها ثلاثة أطفال. زوجها كان يعمل في الشرطة، انشقَّ عن النظام، وهو الآن بلا عمل.