الهدوء الذي يسبق الغارة
الساعة العاشرة صباحاً أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2014، غارات طيران النظام على أشدّها في مدينة الرقة التي تسيطر عليها داعش. الطائرات لاتزال بالسماء, مريم وأولادها الأربعة ملتصقين ببعضهم في زاوية الغرفة، تحضنهم مثل طائر يحمي صغاره تحت أجنحته, مع كل غارة يغمضون عيونهم ويصرخون معاً كأنّ لهم قلباً واحداً. الهاتف يرنّ باستمرار لكن لا أحد يجرؤ على الذهاب لالتقاط السماعة, تمرّ لحظة هدوء لا صوت للطيران فيها, ينظرون بعيون بعضهم متوجسين لكنه الهدوء الذي يسبق الغارة.
“ماما، ماما” يصرخ الأولاد، وهي تشدّ عليهم وتصرخ معهم. لانقضاض الطيران صوت قاتل يعصر القلوب، تشعر وكأن الطّائرة ستقذف الموت حتماً عليك أنت لا أحد سواك, إنه فعلاً صوت الموت.
ثواني صعبة يصحبها صراخ مريم وأولادها، تسبق الانفجار القريب الذي لا يبعد سوى أمتار خلف المنزل, يكاد الحائط أن يسقط على رؤوسهم فينتفضون جميعاً. الغبار يحجب الرؤية، صوت رنين الهاتف يسعف مريم فتركض لترفع السماعة.
“إنتو بخير؟” يسأل زوجها وصوته يخنقه البكاء.
“الضربة قوية كتير”. ترد مريم عليه بصوت عالٍ.
يقول لها أن تخرج من البيت هي والأولاد فهو قادم, تضع مريم حجاباً على رأسها وتخرج صغارها, الجميع ملطخ بالغبار كأنهم خارجين من أنقاض زلزال, مريم لم تحسب حساباً للذي ستلقاه في الشارع, ومن يحسب حساباً في أجواء الموت هذه؟ لكن في مكان تسيطر عليه داعش عليك ذلك.
كانت مريم ترتدي ثوباً فضفاضاً، وهو من الأزياء الشعبية في الرقة، وتضع حجاباً يكشف شعرها بوضوح. لم تكن لتنتبه لهذا من شدة خوفها على الصغار قبل أن تصبح في الشارع، حيث رآها أحد عناصر داعش وانقض عليها كأنه ذئب وجد فريسته. ملثم يرتدي ملابس سوداء، لا يتجاوز الـ 18 من العمر، يحمل بندقية من نوع كلاشينكوف، لم تعنِ له شيئا لا وجوه الصغار المرعوبة، ولا بكاءهم.
صرخ بمريم “يا حرمة استري حالك شلون طالعة عالشارع بهالمنظر”.
لم تعِ مريم ما الذي يريده، كانت عيناها على السماء حيث الطائرات لا تزال في الجو.
يقترب أكثر، ويزيد صراخه “اتقي الله يا حرمة! لك وين نقابك؟”
فترد عليه مريم وشعور بالقهر والخوف يختلط مع صوتها: “لك اتقي الله أنت مو شايف شو عم يصير”.
العنصر: “شايفك أنت سافرة واذا ما لبستي نقابك أخبر عالحسبة”.
مريم : “يا الله لك كنا رح نموت ما شفت الضربة وين؟”
العنصر: “بسيطة انت ما تفهمين”.
ينهي قوله هذا ويرفع جهازه اللاسلكي. لم تسمع مريم ما الذي يقوله فصوت الطيران هو الطاغي, تمسك أولادها وعيونها على الشارع، ترقب قدوم زوجها الذي يملك سيارة أجرة يعمل عليها. خرج بعض الجيران من منازلهم أيضاً لتسارع مريم بالاستنجاد بهم. اقتربوا ليحدثوا العنصر مستغربين ما يفعله، وأنه يمكن أن يموتوا جميعاً إذا ما استمروا بالوقوف هنا، فالمنطقة أصبحت مستهدفة من الطيران.
يرد عليهم وكأنه لا يأبه “انتم لا تخافون الله، بس تجي الحسبة تتفاهمون معها”.
خمس دقائق استمر الجدال فيها، ومريم عين على السماء وعين على الطريق ترقب قدوم زوجها. لا تهتم لنفسها تريد فقط أن تؤمّن على الأولاد. رأت سيارة زوجها في آخر الشارع، شعرت بارتياح رغم صوت الطائرات. وصل زوجها نزل من السيارة ووجهه تملأه الدموع. ركضت مريم والأولاد إليه.
صاح بهم: “عالسيارة بسرعة”.
قفز العنصر: “وين، وين؟ انت زوجها؟”
نظر إليه زوج مريم باستغراب وقال: “نعم”.
مريم داخل السيارة تنظر إلى زوجها وتبكي خوفاً عليه، تلوم نفسها لأنها هي السبب إذا حدث له مكروه. تنظر إليه وهو يقترب من العنصر وخوفها يزداد, يشير إليه مستغرباً ما الذي يريده.
يعيد العنصر سؤاله: “انت زجها مو هيك؟”
– نعم أنا زوجها شبدك منا
– “انت ما عندك شرف؟ شلون تقبل على زوجتك تخرج بهالمنظر؟”
سمع زوجها هذه الكلمات، غضب الدنيا وقهرها وحزنها تجسد في عينيه. اقترب أكثر من العنصر وصفعه صفعة سقط على الأرض من أثرها. وبقي العنصر مصدوماً ينظر إلى زوج مريم الذي أنهى الموقف بمخاطبته متحدياً “الحقني إذا كنت رجال”.
صعد إلى السيارة ومضي, تشد مريم على يده وهي تبكي، لكنها شعرت بفرحة انتصار أنستها خوفها .