الهاربة من سيف الدولة الإسلامية

 

في 6 كانون الثاني/يناير 2015

 

في الـ 15 من شهر أيلول/ سبتمبر 2014 قرع باب منزلنا، ابتهجت للوهلة الأولى لرؤيتي لها بعد غياب طويل إلى أن رأيت الدمعة في عيونها واحمرار وجهها، كانت تقف كالمشردين بثوبها المنزلي المزركش بالزهور وحذائها البلاستيكي، وقفت مذهولة لثواني بمنظرها إلى أن أيقظتني اسئلة أمي الموجهة لها “ما بك ؟ماذا حصل لك؟” وانهارت هي بكاءاً كمن أمسك دموعه لدهر ثم أطلق لها العنان  “أرادوا أن يأخذوني، هجموا على منزلنا، هربت من بين أيديهم بقدرة قادر”.

 

حاولت أمي تهدئتها، طلبت منها أن تستلقي قليلا ثم تروي لنا ما حصل. وفعلا بعد عدة دقائق من الراحة بدأت تروي قصة هروبها من بين طرفي كماشة الدولة المبجلة ويداها ترتعشان ودموعها سيل على خدها.

 

“كنت أجلس في حديقة المنزل أتصفح الفيس بوك، حين بدأ أحدهم يطرق الباب بعنف شديد، لم أعره أي اهتمام، إلى أن فتح ابن عمي باب المنزل.

سمعتهم يصرخون بوجهه: أين هي “س”؟

فأجأبهم :”هي بتركيا ليست هنا”

وبعد جدال دام دقائق دفعوه واقتحموا المنزل، وهو يصرخ بهم “هناك حريم في المنزل”.  ويصرخ لي: “اختي يا “ص” فلتضعي الحجاب على رأسك”.

لم يسعفني الوقت للقيام بأي حركة، لأنهم خلال دقائق أصبحوا أمامي. كانوا مسلحين يرتدون الزي الباكستاني، ثوب إلى الركبة وتحته بنطال حتى الكعب، ومعهم إمرأة ترتدي العباءة والنقاب وتحمل السلاح أيضا.

“هل أنت س ؟؟”

“لا أنا أختها ”

 

لم يتجرؤوا على أخذي لأنهم ليسوا على يقين بأنني “س”. على ما يبدو أن أحدهم كتب بي تقريراً وجاؤوا على أساسه

“فلتعطينا اللابتوب (جهاز الكمبيوتر المحمول) الذي معك”

“ماذا تريدون به؟”

“أعطينا إياه”

 

لم يخطر لي إلا أن أحمل “لابتوبي” وأركض إلى غرفة المعيشة، فلحقوا بي، جلست على الأرض، وبكل ما أعطيت من قوة قلبت طرفي اللابتوب بالعكس فكسر وأصبح قطعتين. في هذه الأثناء كان ابن عمي يستنجد بالجيران. المسلحون حولي وأنا أرضاً بدأوا بركلي وأنا أترنح وأصرخ كالمجنونة ” الله لا يوفقكم .”

 

وفي ذاك المشهد الهستيري والفوضوي، فقدت أمي المريضة وعيها بعد أن رأت زهرة عمرها تدعس بالأقدام. والتم الجيران ليخلصوني ويسعفوها، استطاعت الجماهير المحتشدة أن تدفع بالمسلحين إلى خارج المنزل بحجة أن “الحجة” المريضة تحتاج لبعض الهدوء ريثما يأتي الإسعاف. وقف المسلحون أمام باب المنزل، استغلينا أنا وابن عمي تلك الفرصة، لنهرب عبر السطح إلى منزل الجيران ومن هناك أتيت أنا إلى هنا.

 

أحسست في تلك اللحظات بأن أحدا ما يصفعني مراراً. تساءلت “كيف لهم أن يقتحموا منزلا دون أن يطلبوا من النساء أن تتستر، كيف لهم أن يضربوا إمرأة مسلمة بهذه الهمجية ؟؟ هل هذا هو الإسلام الذي جاؤوا به؟؟”

حاولنا جميعا تهدئتها وطمأنتها بأنها ستكون بمأمن في منزلنا إلى أن تستطيع الهرب من هذه المدينة المرعبة. إلا أنه في تلك اللحظات كل كلمات الأبجدية لم تستطع مداواة قلبها الجريح، لاسيما أنها من أوائل الذين ثاروا ضد النظام، ورغم جبروت القوى الأمنية لم يستطيعوا إذلالها.

 

قضت ” س” عدة أيام في منزلنا، أيام طغى عليها الحذر الشديد الذي حاصرها وحاصرنا. حتى كاد الخوف يخنقنا جميعا، خصوصا أن بعض أفراد أسرتها بدؤوا بالتردد على منزلنا، ومراقبة بسيطة من قبل الدولة الإسلامية لهم كفيلة بأن تودي الجميع بداهية. أصرينا عليها جميعا أن وجودها في هذه المدينة مخاطرة كبيرة، وأنها ليست مضطرة أن تعيش تجربة قاسية فقط لأنها لا تريد أن تتحول الرقة إلى مكان لا تستطيع زيارته إلا بأحلامها.

 

ضغطنا عليها بشدة خصوصا بعد أن سمعنا بضعة تسريبات أن رأسها مطلوب بتهمة شتم الخليفة، وأنهم قد أخذوا اللابتوب واستطالعوا أن يستخدموا ” الهارد ديسك ” ويروا ما بداخله من خصوصيات وكتابات .رضخت ” س ” لضغوطاتنا ، وقررت أن تلملم جراحها وترحل عن هذه المدينة الملفحة بالسواد.

 

وبتاريخ 18 أيلول/ سبتمبر 2014، قدم أحد الأصدقاء إلى منزلنا ليصطحبها على أنها زوجته إلى تركيا حيث تحمل هويتها وهي منقبة. وبذلك لن يستطيعوا معرفة أنها ليست صاحبة الهوية الحقيقية. جلسنا جميعا ننتظر الحافلة التي ستقلهما وعلامات القلق على وجوهنا، كانت الساعة الثالثة فجراً، بعضنا يراقب الشارع خوفا من وجود عناصر مراقبة للمنزل والآخر يهدئ من روع ” س ” والرجل الذي سيصطحبها لأن أي خطأ كفيل بأن يعرض كليهما للخطر.

 

سمعنا صوت الحافلة، نهضنا جميعا، عانقناها متمتمين لها دعوات عديدة “بحمى الرحمن، فليبعد الله عنك عيونهم” كانت تلك الدعوات الدواء الوحيد الذي لربما يريح روحها الخائفة ويوقف دموعها. سارعنا بعدها إلى الشرفة لنودعها ونطمئن أن الحافلة قد غادرت الحي دون مشاكل .

مضت ساعات عاشها الجميع بخوف وقلق شديدين إلى أن جاءتنا رسالتها المبشرة بهروبها من بطن الغول “داعش ” إلى ضفة الأمان لنتنفس جميعنا الصعداء .