الموت ولا المذلة

ازدادت وتيرة القصف، واقتربت القذائف أكتر فأكثر من حارتنا. لم يعد بإمكاننا البقاء في منزلنا في داعل (مدينة تابعة لمحافظة درعا، تعدّ من أولى المدن التي شاركت بالحراك الثوري في بحوران) خاصة لأن بيتنا يقع في مكان مكشوف، وفي الطابق الثاني ولا يوجد بقربه أبنية عالية لتحميه أو تخفف عنه سقوط قذيفة ما. أصبح من الضروري أن نغادر بيتنا بانتظار أن تخف وتيرة القصف على داعل،  ويهدأ الوضع قليلاً  ونتمكن من العودة من جديد إلى داعل إلى حارتنا وبيتنا.

في اليوم التالي كنا قد جهزنا أنفسنا للرحيل المؤقت، لم نستطع الخروج في الليل، ليس فقط خوفاً من القصف، ولكن من رصاص القناص والحواجز أيضا. حزمنا  أغراضنا الضرورية وخرجنا في الصباح الباكر إلى درعا المحافظة. هناك منزل أختي المسافرة وقد تركت مفتاح البيت عندنا. كنا حينها في شهر رمضان، وكان بيت أختي يقع في منطقة إسمها حي الكاشف. يقع هذا الحي في أول درعا وكان قريباً من منطقة البانوراما  والملعب البلدي، حيث أقامت قوات الأمن و”الشبيحة” مركزا رئيسياً لتمركز آلياتها العسكرية في درعا، بل ثكنة عسكرية كبيرة تضم المدفعية التي تقصف قرى ومدن حوران المجاورة.

آثار القصف على السيارات والمنازل وحتى الإسفلت، الطريق أصبحت حقلاً. تصوير اسماعيل الجاموس

كان بيت أختي بالقرب من هذه الثكنة. حين يبدأ القصف كنت أشعر أن البيت يخرج من الأرض ويعود ليقع عليها بكل قوة، وهكذا مع كل قذيفة كانت تطلقها تلك المدفعية. كان الصوت رهيباً ومخيفاً، كنت أتساءل إن كنا هنا حين نسمع صوت القذيفة تنطلق من المدفع  نتجمد من الخوف والرعب، فكيف بالناس اللذين تسقط عليهم أو بقربهم؟ كنت قد جربت هذا الشعور في داعل، لكن وبحكم الظروف، أصبحنا نبدّل أماكن إقامتنا، ونختبر تجارب لأول مرة في هذه الحرب التي لا نعلم متى ستنتهي.

ذهبنا إلى درعا هرباً من القصف لكن هذا لا يعني أنّنا أصبحنا تماماً بأمان. يوجد الكثير من الأمورالتي تهدد الحياة  خلال هذه الظروف، كإطلاق الرصاص العشوائي فجأة، والاقتحامات التي كان لابد منها كل فترة وأخرى، إضافة إلى القصف المدفعي والغارات الجوية والاعتقال طبعاً. كنا نسمع أنه سيحصل اقتحام اليوم أو غدا لكن لاشيء مؤكد. من الممكن أن يكون هناك إقتحام لكن لاأحد يدري أين ومتى.لأن الإقتحام يحدث فجأة. يقتحم “الشبيحة” (تسمية اعتاد السوريون إطلاقها على الجيش والعناصر الموالية له، وهم غالباً من الاستخبارات) الحارات بدباباتهم وأسلحتهم، وتبدأ حملات التفتيش للبيوت، والذلّ والإعتقالات. لقد اختبرناها عندما كنا في داعل، فهذه الحملات أشبه بالموت البطيء. أذكر يومها كنا في المنزل لوحدنا أنا وأخي كان يبلغ من العمر17 عاماً،  سمعنا صوت الدبابات من بعيد، سمعنا أصوات الناس يصرخون أن الأمن إقتحم حي الكاشف، وهو الحي الذي نقيم فيه. أصبحنا ننتظر دورنا ليأتي الأمن ويفتش البيت، فهذه الاقتحامات لا تقلّ خطورة عن القصف، لأنك تموت مئة مرة وأنت تتخيل ما الذي سيفعله الشبيحة بك أو بأهلك. وأكثر ما كان يخيفني أن يعتقلوا أخي، أو أن يستغلوا أننا لوحدنا في البيت.

دق جرس الباب وفتح أخي، وأنا أقف بعيدة عنه قليلا. دخل أحدهم على رأس مجموعة تضم سبعة عناصر أمن. أخبرونا أنهم يريدون تفتيش البيت بحثاً عن الإرهابيين. بدأوا بتفتيش المنزل، وأنا أرتجف من الخوف. كنت أحاول أن أخفي خوفي حتى لايستغلوه. قالوا لنا أن نأخذ أي ممتلكات ثمينة ونحملها معنا، فأخبرناهم أنه لايوجد ما نخفيه. كان أخي يقف في إحدى الغرف مع العناصر، وأنا كنت في الصالون عندما أشار إلي أحد العناصرالذي كان يفتش غرفتي وناداني. تجمدت بمكاني لم اعرف ماذا أفعل؟ ولماذا يناديني؟.. إستجمعت قواي وذهبت إلى الغرفة. كان يقف عند الباب وسألني: أي واحدة هي خزانتك التي تحوي أغراضك الشخصية حتى لا افتحها؟ شكرته وأخبرته، وتابع تفتيش الغرفة. إستغربت تصرفه وكأنه يريد أن يقول ليس جميعنا شبيحة أو أنه يعتذر بتصرفه هذا عما يقومون به، ثم خرج منها وإنتهى باقي العناصر من التفتيش  وخرجوا من المنزل. وتنفسنا الصعداء بعد هذا العذاب النفسي.

تلك الدقائق التي كانت تسبق التفتيش، كانت تمرّعلينا كأنها الدهر، لشدة طولها وقلقنا وخوفنا خلالها. فهي تسيطر علينا وتذلّنا ونشعر وكأن هذه البلد ليست لنا، وكأننا  نحن من تطفلنا عليها ودمرناها وقتلنا وردة شبابها. إن حملة تفتيش كهذه من نظام شبيح وحاشية وسخة تابعة له، وعلى الرغم من الخوف الذي كنا نعيشه معها، كانت تزيد النار بقلوبنا وتولد فينا طاقة لنتحرر من هذا الطاغية ونبقى صامدين ونتمسك بحريتنا وثورتنا لنتحرر من هذا الطغيان الظالم. حين تفكّر أن الجيش والشرطة  والأمن وباقي المراتب العسكرية وجدت لتحميك وتدافع عنك كمواطن، تجد أن الذي يحدث هو العكس تماماً. فمن الطبيعي أن تصبح أنت الحامي لنفسك لبيتك لوطنك لكرامتك، ولن نسمح لأي غاز أن يعتدي على حرمتنا وكرامتنا. ولأجل ذلك خرجنا من درعا نقول بأعلى صوتنا الموت، الموت، الموت ولا المذلّة.

ديانا الحريري (25 سنة) من محافظة درعا. نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات في مدينتها ثم اضطرها القصف المستمر للجوء إلى الاردن حيث أنجبت طفلتها الوحيدة. تعيش ديانا حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.