المنقلة السورية لعبة شعبية مستمرة رغم الحرب

"رغم ما أفرزه العصر الالكتروني من وسائل جديدة للتسلية والترفيه والتواصل، ورغم الحرب الشرسة والعنيفة التي تعيشها البلاد، تبقى لعبة المنقلة بطقوسها الشعبية حاضرة ومستمرة. "

هاديا منصور

يتجمهر عدد من الرجال حول عصام الأمين (45 عاماً) وهو يلعب المنقلة مع صديقه حيان الشعبان (40 عاماً) على مصطبة أمام المنزل.
عصام وحيان يهويان لعبة المنقلة الشعبية منذ زمن. انتشرت هذه اللعبة في العديد من المناطق السورية لاسيما ريف إدلب، وهي لعبة قديمة كانت تجذب كبار السن في السابق، ولكنها غدت مؤخرا لعبة المهمومين ومصابي الحرب واليائسين ممن اتخذوها ملاذاً للهروب من واقعهم المؤلم.
عصام الأمين من قرية معيشورين في ريف إدلب الجنوبي الشرقي يروي أسباب تعلقه بلعبة المنقلة فيقول: “بدأت اللعب بالمنقلة منذ عامين إثر بتر قدمي بإحدى شظايا صواريخ الطائرة الحربية التي استهدفت القرية آنذاك. ولأنني لم أعد استطيع الحركة باستمرار إلا على كرسي المتحرك، رحت أقضي جل وقتي بهذه اللعبة التي تنسيني بعضا من همومي”.
ويلفت الأمين إلى “أن لعبة المنقلة لم تعد تسمى لعبة المتقاعدين وكبار السن لأن نسبة الشباب التي تلعبها باتت أكبر”. ويرجع السبب لأنها “جذبت الكثيرين كونها تحتاج الى ذكاء مثل لعبة الشطرنج ، فتشغل الأفكار وتملأ أوقات الفراغ بالخسارة والربح، فهي تعتمد على التركيز والحسابات الذهنية الدقيقة”.
تتكون المنقلة من لوحي خشب متقابلين، في كل لوح سبعة حفر، وفي كل حفرة سبعة أحجار، حيث يبلغ عدد الحفر 14 وعدد الحجارة 98 حجراً.
وعن طريقة اللعب يقول حيان الشعبان “أجلس مع عصام بشكل متقابل، وتفصل بيننا المنقلة. يقوم كل منا بدوره بتوزيع الحصى على جميع الحفر بشكل متساوي بعكس عقارب الساعة. ويبدأ اللعب وفق قواعد محددة لثلاث جولات متتالية، يسعى اللاعب فيها الى ملء كل الحفر أمامه بعدد زوجي من الحصى بعد تقدير كل منها أي يحتاج الى عدد فردي أو زوجي من الحصى المتجمعة في يده”.
ويضيف أن الفائز في اللعبة هو من يقوم بجمع الحصى من حفرة أو أكثر ليضيفها لما لديه سابقا الى أن تفرغ المنقلة تماماً، وبالتالي يكون هو من جمع الحصى التي تزيد عن ملء الحفر السبع الخاصة به، أي مايزيد على 49 حصاة وتوزيعها على كامل الحفر من “خلال تقدير عدد الحصى الذي تحتاجه كل منها على نحو سريع وخاطف”.
حيان الشعبان من أشد المتعلقين بلعبة المنقلة، فلا يفوت عليه أي من وقت فراغه إلّا ويلعبها.
لطيفة (35 عاماً) زوجة الشعبان لا تحب لعبة المنقلة، وتقول: “في أوقات فراغ زوجي كنت أرغب أن نخرج سويا لزيارة بعض الأقرباء أو ربما تسوق بعض الحاجيات، غير ان تولع حيان بالمنقلة وانشغاله بها يحول دون تحقيقي لتلك الرغبات”. ولذلك ترى لطيفة أن العمل والمنقلة لا يتركان لها مكانا في وقت زوجها.
لطيفة سعت لتعلم اللعبة كي تلعبها مع زوجها فلا يضطر للخروج باحثا عن منافس، إلا أن تعلمها لم يكن بتلك السهولة. بحسب لطيفة فهي لعبة تحتاج للكثير من التركيز والعمليات الحسابية الصعبة. لطيفة تقول مبررة: “نحن النساء عادة يبقى تفكيرنا غارقا بأعمالنا المنزلية والعناية بأبنائنا ولذلك نبقى مشوشات ولذلك لا تناسبنا هذه اللعبة “.
لعبة المنقلة لها طقوسها التي لم يمحها الزمن في ذاكرة أبو محمد السبعيني فيتذكرها بكثير من الشوق والحنين ويقول: “كانت المنقلة تزين تلك المساءات والسهرات الصيفية، وتتنقل بين البيوت لتزور كل يوم بيت أحدهم، وخاصة وأنها سهلة النقل نظرا لانتظام شكلها وسهولة إغلاقها وحملها دونما عناء، ودون أن تفقد احدى حصاها”.
ومن التغيرات الأخرى التي طرأت على طقوس المنقلة يتابع أبو محمد بأن التجمعات حول لعبة المنقلة لم تعد تتوسط القرية بل راحت تلعب في المنازل وحصرا بين الأقرباء والأصدقاء في حين كان يتسنى للجميع حضورها سواء قريب ام غريب، يتنهد أبو محمد قائلا” ليت تلك الأيام تعود مجدداً”.
كان ذلك في الزمن الماضي، اما اليوم فدخل عنصر الشباب من أبناء الجيل الجديد لهذه اإلى عذع اللعبة ممن يسعون لتعلمها من خلال اختبار قدراتهم على مجاراة اللاعبين المهرة من كبار السن والمعمرين.
هيثم البلاني (22 عاماً) تعلّم لعبة المنقلة وتفوق فيها، وعن دوافعه لتعلمها يقول: “دفعني الفضول لتعلمها. كنت أراقب والدي الستيني وحماسته وهو يلعبها مع أصحابه فأجلس لأراقبهم وأستمتع بأحاديثهم وتعليقاتهم أثناء اللعب وهو مادفعني لتعلمها لاحقا، ورحت أنافس هؤلاء المعمرين المتمرسين فأعادلهم أحيانا وأربح وأخسر أحيانا أخرى”.
للمنقلة تاريخ طويل تتحدث عنه المجازة في التاريخ هدى كليب (35 عاماً) فتقول لحكايات سوريا:” إن تاريخ اللعبة يعود الى 1400 سنة قبل الميلاد، حيث تم العثور على لوح حجري رسمت عليه على أحد الأسطح في معابد مدينة منفيس المصرية، وفي عهد التوسع الاستعماري انتشرت اللعبة ليتم العثور عليها في جميع أنحاء البحر الكاريبي وعلى الساحل الشرقي من أمريكا الجنوبية”.
كما وتشير كليب لوجود نسخ معدلة من اللعبة في كل من الهند وسيرلانكا وماليزيا والفلبين واندونيسيا، اما في ما يتعلق بانتشار اللعبة في سوريا فتلفت كليب إلى أنها تعود الى العهد العثماني، وقد استوحيت كلمة منقلة من فعل نقل الحجر وتحريكه بين حفرة وأخرى على ذاك اللوح الخشبي.
وللشرع رأيه في هذه اللعبة، وحول هذا القضية يجيب الشيخ والشرعي أيمن البيوش (45 عاماً) فيقول: “إن لعبة المنقلة حالها كحال بقية الألعاب، سواء الشطرنج أم الداما أو الألعاب الورقية، إن كانت اللعبة تلعب بقصد التسلية فلا جناح في ذلك، أما إن كانت تلعب بقصد الرهان والحظ فذلك حرام شرعا”.
رغم ما أفرزه العصر الالكتروني من وسائل جديدة للتسلية والترفيه والتواصل، ورغم الحرب الشرسة والعنيفة التي تعيشها البلاد، تبقى لعبة المنقلة بطقوسها الشعبية حاضرة ومستمرة.