المعضمية تبكي على وقع الحصار

لحظة دخولي إلى منطقة المعضمية في ريف دمشق، في محاولة لاستطلاع أوضاعها، إستقبلني دوي أصوات قصف شديد. كان يأتي هذا القصف من مطار المزة العسكري ومن جبال يطلق عليها الأهالي إسم “جبال الفرقة الرابعة” وهي الفرقة التابعة لماهر الأسد. إتخذت هذه الفرقة من الجبال التي تحيط بالمعضمية مركزاً لها. كنت أشعر لحظة دوي القذيفة وكأن جسدي يتسمّر من شدة الخوف. المعضمية، والتي تبعد 4 كم عن دمشق، بدت وكأنها تهتز حتى ولو لم تسقط عليها القذائف؛ كانت القذائف موجهة نحو مناطق أخرى في دمشق.

دمار في محيط الجامع العمري، المعضمية – فيسبوك –عدسة شاب معضماني

خلال تجولي برفقة ناشطين وشاب من الجيش السوري الحر، بدت الأحياء خاوية من المارة والمحلات مغلقة. رأيت آثار قصف في بعض الأبنية والمحلات التجارية والجوامع مثل جامع العمري. إستفسرت عن أحوال الأهالي وكيفية تأمين لقمة عيشهم. قال الناشط أمير والذي يبلغ من العمر 26 سنة: “نحن الآن محاصرين من كافة الجهات وبالكاد نستطيع تأمين المستلزمات الضرورية وإدخالها بشكل سري.”

يحد المعضمية من الغرب مساكن ضباط الجيش النظامي، وكتائب سرايا الصراع التابعة لعدنان الأسد، وثكنة ومساكن يوسف العظمة التابعة للجيش النظامي أيضاً. ومن الشمال يحدها ثلاثة أفواج للفرقة الرابعة وفي الشمال الغربي مساكن الشرطة. أما في الشرق فيقع مطار المزة العسكري، وفي الجنوب الشرقي معسكرتابع لمنظمة فلسطينية مؤيدة لنظام الأسد. ويستطرد الناشط قائلاً إن هذا الطوق الخانق بمثابة حصار على المدينة. فالسكان يواجهون صعوبة في تأمين الغذاء والأدوات الطبية البسيطة.

رافقتني أثناء الجولة في أحياء البلدة آية المهايني (22 سنة) وهي تعمل مسعفةً وناطقة إعلامية  في تنسيقية المعضمية. تقول آية إنه لايوجد غير مشفى ميداني واحد، وهو غير مجهز بالأدوات والمعدات الطبية اللازمة. ويعمل هناك طبيبان مختصان وباقي الطاقم مكوّن من المسعفين وأغلبهم من بنات ونساء المعضمية. وتشير المسعفة إلى أن وظيفة هذا المشفى هو القيام بالإسعافات الأولية فقط، بينما يتم نقل الحالات الخطيرة إلى أماكن أخرى بمساعدة الجيش الحر الذي يواجه صعوبات في نقل الجرحى ولاسيما عند حدوث الإشتباكات. وتقول آية: “للأسف عدم توافر المعدات جعلنا عاجزين عن إنقاذ حياة الكثيرين. مرت علينا حالات مبتورة الأطراف، وقد عجزنا مراراً عن إيقاف النزيف الحاد.”

وتروي آية المهايني أحداث مجزرة 28 تموز/ يوليو 2012 عندما قُصفت المعضمية بشكل متواصل ثم اقتحمها الجيش النظامي. تقول آية إنها كانت تعمل مسعفةً وقد ذهبت برفقة شابين من أبناء المنطقة لإسعاف طفلتين من آل الحلبي سقطت قذيفة هاون على منزلهما: “عندما وصلنا كانتا قد توفيتا وهما متعانقتين يغلفهما الموت في مشهد طوباي وعندما هممنا بحمل الجثتين لدفنهما، تجددت الإشتباكات، فاضطررنا للإختباء في منزل آخر ومعنا الجثتان.” وتستطرد آية قائلة إنهم خرجوا بعدما هدأت الأوضاع ليتفاجؤوا بوجود جثث أربعة شبان أخوة من آل رجب كانوا قد استشهدوا ذبحاً بالسكاكين وجثثهم مرمية على الطريق: “كان يوماً بألف يوم، وأينما اتجهنا نرى الجثث والدم يغطي الشوارع، مترافقاً مع حركة نزوح للأهالي ولاسيما في الليل حتى الساعة الثامنة صباحاً.” في اليوم التالي وبعد انسحاب الجيش الحر قام الأمن برفقة شبيحة المنطقة باقتحام البلدة، ومداهمة الملاجئ وقد حدثت تصفيات ميدانية لتكون المحصلة 85 شهيداً، حسب معلومات المسعفة آية مهايني.

أثناء تجولي بدت المعضمية خالية من أي علامات تشير إلى وجود الجيش الحر على الأرض. وعند سؤالي عن تواجد الجيش الحر وعملياته إكتفى معظم الناشطين بتزويدي بمعلومات عامة. يقول محمد قلعجي وهو من أفراد الجيش الحر: “غالبية أفراد الجيش الحر هنا هم بالأصل من أبناء المعضمية، يتغلغون في الأحياء والمناطق الثورية، ولكن بشكل غير مباشر، تجنباً لأي اشتباكات مع جيش النظام وحقناً للدماء، ولكن أفراده يحضرون عندما تستدعي الحاجة ولاسيما حالات اقتحام المدينة من قبل الجيش والأمن، أو وجود حالات إسعافية خطيرة.”

تبدو المدينة متشرذمة بين مؤيدي النظام والثوار، حيث يفصل بين حارات العلويين والسُّنة شارع يطلق عليه إسم طريق داريا أوتوستراد الأربعين، وعلى حد وصف الناشطة سالي: “كان هناك تداخل طفيف بين أحياء العلويين والسنة، غير أن ساكنيها من كلي الطرفين غادروها عندما بدأت أحداث الخطف تلقى بظلالها على المعضمية.”

تنطق أفواه الأهالي بعبارات وروايات كثيرة حول خطف شبان المعضمية وقتلهم من قبل مؤيدي النظام. توقفت كثيراً عند هذا الانقسام الواضح، لأستفسر أكثر. وحسب قول أمير كان هناك عدة محاولات قام بها وجهاء المعضمية مع أبناء الطائفة العلوية لحقن الدماء ووقف عمليات الخطف والذبح من قبلهم، غير أن جميع المحاولات باءت بالفشل، حسب قول أمير.

وحول سؤالي عن قصص مغايرة ولاسيما فيما تتناقله الألسن حول تصفية علويين، لمست ارتباكاً واضحاً بدا على وجوه الناشطين، ورغبة بعدم الخوض في هذا الحديث. ولم أتمكن في ظل الظروف التي تعيشها المعضمية الإتصال بجهات علوية في البلدة.

وتكثر رواية الأهالي حول حاجز صحنايا، وهو يقع بين منطقة جديدة عرطوز ومنطقة صحنايا، ويسمى حاجز الموت. وهنا يقول أحمد معمضاني الناطق الإعلامي باسم تنسيقية المعضمية إن أغلب الإعدامات الميدانية ترتكب عند هذا الحاجز ثم يقوم الأمن برمي الجثث في المعضمية بعد أخذ كل الأوراق الثبوتية من الضحية: “أغلب هذه الجثث تسجل مجهولة الهوية وهذا ما حذا بأهالي المعضمية لتسمية مقبرتهم بمقبرة شهداء سورية لأنها تضم شهداء من مناطق سورية عدة.” ويستطرد أحمد قائلا بأن أحياناً يتم التعرف على الجثة من خلال نشر صور لها على صفحة تنسيقية المعضمية.

بعد يومين من مغادرتي المعضمية تواصلت من دمشق مع أمير عبر سكايب. باغتني بقوله إن القذائف تنهال على المنطقة في اللحظة التي يتحدث بها. كان ذلك في 20 أيلول/سبتمبر في الساعة التاسعة مساءً. بدا أمير مرتبكاً، متعثراً بكلماته؛ يسكت للحظة ثم يعود لينبأني بأحوال الأهالي، وحصيلة شهدائهم. ثم ينقطع عني مجدداً، فأغوص في شرود ذهني حول معاناتهم في منطقة تبعد عني بضعة كيلومترات، ليخبرني أن لا شيء يعلو على صوت القذائف. كانت  المحصلة سقوط خمسة شهداء وسبعين جريحاً معظمهم من النساء والأطفال، حسب معلومات الناشط أمير.