المعتقلون في الزبداني مصير معلّق بخبر
مريم خالد
هدوء حذر يعمُّ مدينة الزبداني الواقعة في ريف دمشق. فقد اتفق الجيش الحكومي مع مقاتلي المعارضة على وقف لإطلاق النار غير محدد الفترة في منتصف نيسان/ أبريل من هذا العام. جاء ذلك بعد قصف عنيف شنته مدفعيات جيش النظام المتمركزة على الجبال المحيطة بالمدينة منذ ما يقارب الأحد عشر شهراً. سبّب القصف دماراً كبيراً في الزبداني ونزوح ما يقارب ثلثي سكانها البالغ عددهم ثلاثون ألفاً إلى المناطق المجاورة كبقين ومضايا والبقاع اللبناني.
يسيطر مسلحو المعارضة على أكثر من نصف مساحة المدينة، بينما يتمترس الجيش النظامي في أكثر من ثمانين نقطة عسكرية عند أطرافها. ينفذ الجيش النظامي والأجهزة الأمنية حملات اعتقال عشوائية، تطال كل من يخرج من المنطقة التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة.
اعتقل محمد (32 عاماً) على حاجز قريب من مكان عمله في مركز إطفائية مدينة الزبداني واختفى دون أن تعلم عائلته شيئاً عنه. لم تترك أم محمد باباً إلا وطرقته بحثاً عمّن يعرف خبراً عنه. ذهبت إلى الأجهزة الأمنية المختلفة ومخافر الشرطة في المدينة ولكن دون جدوى. أم محمد البالغة من العمر64 عاماً، أرملة توفي زوجها حين كان أولادها الثلاثة صغاراً. عملت كمستخدمة في إحدى مدارس الزبداني. “يا ويلي إذا إجا الليل”، قالتها بحرقةٍ ثم ذرفت دمعتين منعتاها من إكمال الكلام. تعاني أم محمد من أرق دائم، بعدما أتاها خبر استشهاد ابنها محمد تحت التعذيب في معتقلات النظام السوري.
بعد مرور خمسة أشهر على تاريخ اعتقال محمد، خرج أحد المعتقلين من السجن وأخبرها بأن ابنها قد لفظ أنفاسه الأخيرة بعد معاناة كبيرة تحت التعذيب. جن جنون الأرملة حينها وأقامت العزاء. تتذكر أم محمد ذلك اليوم جيداً. فقد كانت قذائف الهاون تتساقط على الحي الذي تقطنه. ثم بدأت مشوار البحث مجدداً. بدأت تطرق باب المسؤولين صغارهم وكبارهم ثم قصدت مشفى تشرين العسكري ولكن هذه المرة بحثاً عن جثة ابنها. كانت الردود جميعها متشابهة. فتارةً قال لها مسؤولون إن جثة محمد دُفنت في مقابر خاصة بالمعتقلين، وتارة قيل لها إن مصيره مجهول، وآخرون قالوا لها إنه ما زال على قيد الحياة.
في سوريا كل معتقل هو مشروع شهيد. فحسب معلومات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، ومركزها في بريطانيا، والتي تجمع معلوماتها من نحو 100 ناشط داخل سوريا، فإن عدد الذين قضوا تحت التعذيب في شهر نيسان /أبريل من هذا العام بلغ 176 المعتقلين في سوريا وهي الحصيلة الأعلى منذ بداية الأزمة، بحسب تقرير الشبكة. أما الزبداني، وهي من أولى المدن التي تمردت على نظام الأسد، فقد تخطى عدد معتقليها الـمئتين، بحسب “تنسيقية ثورة الزبداني وما حولها”، بينهم 15 استشهدوا جراء التعذيب.
قليلة هي العائلات في الزبداني التي تمكنت من استرداد جثث أبنائها الذين استشهدوا في المعتقلات. أبو يحيى رحمة تسلّم جثة ابنه في آخر تشرين الأول/أكتوبر 2011، بعد ثلاثة أشهر على اعتقاله وكذلك الأمر بالنسبة لأبي عمر الذي حصل على جثة ابنه عمر في آخر شباط/فبراير من هذا العام ، وهو الشهيد الخامس من أبنائه. وكانت الجثتان متفحمتان وحالتهما مزرية، بحسب ما افادت به تقارير “تنسيقية ثورة الزبداني وما حولها”.
إلى مخفر بلودان، البلدة المتاخمة للزبداني والتي كان النزوح إليها قوياً جداً، وصلت أخيراً قائمة بأسماء ستة معتقلين، قيل إنهم استشهدوا أيضاً،.إلا أن الأجهزة الأمنية التابعة للنظام رفضت تسليم الجثث و حاجيات المعتقلين أو إخبار الأهالي بأماكن تواجد الجثث، وهذا ما يجعل ذوي المعتقلين متشبثين بالأمل. تتضمن هذه القائمة اسم أبو عدي (45 عاماً) الذي اعتقل على حاجز للجيش النظامي في الزبداني وهو ذاهب لتفقد أرضه الزراعية قبل سبعة أشهر، حسب قول زوجته. أم عدي تبلغ الأربعين عاماً وأم لثلاثة أطفال صغار، احترق بيتها جرّاء القصف ولكنها تقول: “يروح كل شي بس يرجعلي أبو عدي”. وأثناء مراسم العزاء جاء معتقل سابق وأخبرها أن زوجها حي يرزق وقد شاهده في أحد الأقبية التابعة لأحد السجون.
أم محمد هي الأخرى تتمسك بخيط رفيع من الأمل. طبيبة الأسنان، البالغة من العمر 45 سنة، نزحت إلى بلدة بلودان المتاخمة للزبداني من جهة الشرق مع عائلتها. قبل أربعة أشهر اعتقل ابنها وهو طالب طب في جامعة دمشق من حرم الجامعة. تبلغت أم محمد خبر وفاة ابنها في المعتقل، إلا أنها تأبى التصديق وترفض إقامة عزاء له طالما لم تشاهد جثته وتحضنها.
عدم تسلم الجثث يغرق الأهالي في بحر من الشكوك والمخاوف، تكثر الأقاويل والشائعات حول أن النظام يبيع أعضاء المعتقلين بعد قتلهم. لم تحظ هذه الأقاويل بأي تأكيد من مصدر موثوق، لكن رغم ذلك فهذه الأقاويل تثير الرعب بين الأهالي وتزيد من قلقهم.
وتشدد تنسيقية ثورة الزبداني وما حولها على صفحتها على فيس بوك على ضرورة التمسك بمبدأ اعتبار كافة المعتقلين أحياء حتى تسلم جثثهم. وتتهم التنسيقية في هذا المجال “أجهزة المخابرات الحاكمة بنشر خبر كاذب مفاده وفاة معتقل ما تحت التعذيب واحياناً تصدر له شهادة وفاة كاذبة وتسلم أغراضه لذويه، مما ينتهي بذوي المعتقل أو أصدقاءه بحسن النية بنشر معلومات عن المعتقل وعن نشاطه الثوري فتستخدم هذه المعلومات ضد المعتقل…”
من جهة ثانية، تضع جهات الإغاثة في الزبداني عائلات الشهداء والمعتقلين ضمن أولوياتها، فتسلمهم شهرياً مساعدات بسيطة تضم سللاً غذائية وفي بعض الأحيان يزيد عليها مبلغ مالي صغير. تتقاسم توزيع تلك المساعدات جهات عدة كلجان التنسيق المحلية، ومؤسسة الإغاثة والتنمية السورية الإنسانية “نجدة ناو”، و”جمعية البر والإحسان” الأهلية والمجلس المحلي في المدينة الذي تأًسس قبل سنة تقريباً ويحاول أداء مهام البلدية السابقة.
يتواصل الكثير من أهالي المعتقلين في الزبداني مع بعضهم البعض بالزيارات والمحادثات الهاتفية، تعويضاً عن التواصل غير الممكن مع أبنائهم، ولمشاركة آخر المعلومات التي قد يكونوا قد حصلوا عليها بشأن مصير أولادهم . أم عدي وأم محمد مثلا تسكنان في نفس الحي. كثيراً ما تتبادلان الزيارات، لشعورهما بوحدة المصاب وللاستفسار عن أي خبر يخرج من سجون النظام، عبر معتقلين أطلق سراحهم أو تسريبات من عاملين في الأجهزة الأمنية.