المشفى خارج الخدمة بحضرة الموت
رجل مسن سوري يمشي بالقرب من القبور في أحد أحياء مدينة درعا جنوب سوريا
". عدد المشافي التي تتوقف عن الخدمة نتيجة للقصف الذي يطالها من الطيران في ازدياد، وهذا سبب لجوء الناس للمناطق المجاورة، ولكن الموت يطاردهم أينما ذهبوا. "
الموت في سوريا لا يشبه الموت في أي مكان آخر في العالم. هنا للموت لون آخر وطعم غريب وخصوصية، تتميز طرقه وأساليبه ووحشيته.
تنوعت أقنعته التي يرتديها، فتارة هو جلاد في معتقل، وتارة هو غاز يخنق الحياة وأخرى هو رعب في هيئة صواريخ مدمرة ومرعبة. وهو البطل دائماً على المسرح السوري اليومي، والضحايا شعب قد أنهكته الحرب بسنواتها الطويلة.
مقومات الحياة تتوقف في سراقب يوماً بعد آخر، هذا التوقف طال كل جانب حتى المشافي، مما يضطر الناس للبحث عن بدائل للتمسك بالحياة . عدد المشافي التي تتوقف عن الخدمة نتيجة للقصف الذي يطالها من الطيران في ازدياد، وهذا سبب لجوء الناس للمناطق المجاورة، ولكن الموت يطاردهم أينما ذهبوا.
في المشفى الوطني في معرة النعمان، كانت المواجهة المرعبة بين الموت وماهر الذي اصطحب والده ذو الثمانين عاماً للمشفى، بسبب الجلطة الدماغية التي تعرض لها.
لم يكن ماهر يعلم أنه سيواجه أقسى تجربة في حياته. بعد وصولهما إلى لمشفى في صبيحة يوم الأحد الثاني من نيسان/أبريل، وإدخال الوالد إلى غرفة الإنعاش وهو بين الحياة والموت، تعرضت المشفى في نفس اليوم عند الساعة الثامنة مساء لأربع غارات جوية.
يقول ماهر: “تم إدخال والدي إلى غرفة العناية المشددة، وكنت قلقاً جداً على حالته التي تتدهور، لم أكن أعلم أنني سأعيش لحظات ستكون بمثابة رعب أقسى من الموت، كان المشفى مكتظاً بالمرضى والمرافقين، ولم يكن هنالك ما ينذر بالخطر إلى أن حدث انفجار عنيف هز أرجاء المكان”.
ويضيف محاولاً التقاط أنفاسه وكأنه يعيش الحالة مجدداً: “بدأت حالة من الذعر والفوضى تسيطر على الناس، والكل يصرخ لقد ضربت الطائرة المشفى، حالة من الذعر والارتباك تسيطر على الناس، طلب مني أحد الأطباء النزول للقبو، فقلت له: والدي في غرفة الإنعاش، ولكنه قال لا تقلق انزل أنت، وقد انتقلت حالة الذعر لي، فركضت نحو القبو، كان هنالك العديد من الناس أطفالاً ونساء وشيوخ”.
يتابع ماهر قائلاً: “أقسى مشهد شاهدته، كان لامرأة أخرجوها من غرفة المخاض حيث كانت تجرى لها عملية قيصرية. كانت تنحني بألم واضعة يدها على بطنها ومازالت تنزف، وإحدى الممرضات تحمل طفلها ودم المخاض على جسده”.
ويشير ماهر إلى أنه شاهد “شيخاً يزحف على الأرض محاولاً الوصول للقبو، ومع سقوط الصاروخ الثالث، عدت مسرعاً لغرفة الإنعاش، كان والدي في حالة إغماء، وما زالت الخراطيم تحوط جسده، وفي الغرفة الأخرى عدد من الأطفال في الحاضنات والأطباء يقفون إلى جوارهم عاجزين لا يعرفون ماذا عساهم يفعلون، والغارات ما زالت مستمرة”.
يقول ماهر: “طلبت من أحد الممرضين أن يزيل الخراطيم عن جسد والدي لأنني سأنزله للقبو، ثم حملته على ظهري، وتوجهت مسرعاً باتجاه القبو، أتعثر بالركام الذي ملأ المشفى، وأثناء نزولي وقبل أن أصل للقبو، سقط الصاروخ الرابع على سقف المشفى واخترق الأسقف ليسقط أمام القبو، وجميع من كان بالمشفى كانوا بداخله”.
يسدّ ماهر أذنيه بكفّيه يخشى أن يسترجع أصوات البكاء والصراخ والدعاء وتطاير النوافذ والأجهزة الطبية المدمرة وقطع الأسقف المستعارة والغبار الذي أفقده القدرة على التنفس يومها.
يقول ماهر: “كان ما يحدث أقسى من أهوال يوم القيامة. الموت يتجول بوحشية بين الناس، ولا أتخيل أنني سأنسى ما عايشته في هذا اليوم، ووجوه الناس الصفراء وهم يلتقطون أنفاسهم بعد كل صاروخ، منتظرين الموت بين لحظة وأخرى”.
حين أعلن المرصد مغادرة الطيران الروسي للأجواء، كانت فرق الإنقاذ وسيارات الإسعاف من كل منطقة حول المعرة قد أصبحت على باب المشفى المدمر، وبدأت عملية إخلاء المشفى من المرضى.
خرج ماهر مع والده في سيارة الإسعاف باتجاه مشفى إدلب، والوالد ما زال في غيبوبته، وفور وصولهما سقط ماهر على الأرض منهاراً من هول ما عايشه. تم إدخال والده لغرفة الإنعاش، وتقديم المساعدة الطبية لماهر.
يختم ماهر روايته قائلاً: “هذا المشفى كان الأمل لكثير من الناس، فهو مجهز بأحدث الأجهزة ولكن للأسف كل ذلك تم تدميره في لحظات لكنني خلتها سنوات من الذعر وأصبح الآن خارج الخدمة”.
غادة باكير (44 عاماً) مديرة مركز البراءة للطفولة والدعم والإرشاد النفسي، مدربة في مجال الاستعداد والحماية عضو منتدى المرأة السورية في سراقب.