المشافي “الطيارة” تجربة السوريين الجديدة في مواجهة العنف

لم يتوقع الشاب محمد أنه سيكون حياً يتحدث إلينا وإلى جميع من أتى للاطمئنان عليه، إذ أن إطلاق النار الكثيف من قبل عناصر الأمن السوري على المظاهرة التي اشترك بها جعله يظن أنه هو وجميع من كانوا برفقته في تلك المظاهرة قد ماتوا، فالدم كان منتشراً في كل مكان بضاحية من ضواحي دمشق، حسب ما أخبرنا.

محمد الذي لا يتجاوز العشرين عاماً بدا شاحب الوجه، أصيب في كاحله الأيمن. كان ممدداً على فراش إسفنجي في زاوية غرفة تابعة لمنزل كبير وقربه “كيس” من الأدوية وصورة ضوئية للكاحل تظهر تفتت العظم.

الغرفة التي يرقد فيها الشاب هي المرحلة الأخيرة من مراحل التنقل في المشفى الميداني أو المشفى “الطيار” حسب ما قال أبو رأفت، الرجل الذي رافقناه في تلك الضاحية التي شهدت إطلاق النار على المتظاهرين. وشرح لنا الرجل قائلاً: “فكرة المشفى الطيار أو الميداني جائت بعدما علمنا ومنذ بداية الثورة السورية كيف دخل الأمن السوري إلى بعض مشافي درعا وأجهز على الجرحى، وكذلك كيف كان الأمن يضرب الشاب المصاب الجريح دون أي وازع أخلاقي أو ديني، ومن هنا أجبرنا الظرف أن نداوي الجرحى بهذه الطريقة التي ترونها”.

المتظاهرون في دمشق أو في ضواحيها أو حتى في المحافظات الأخرى قد اعتمدوا المشافي الميدانية الطيارة عوضاً عن مشافي الحكومة أو حتى المشافي الخاصة المراقبة من السلطات. وقد تبرع عدد من الشبان في أحياء التظاهر لإيجاد البيوت السكنية المناسبة البعيدة عن أعين الأمن والشبيحة وذلك لعلاج الجرحى في مكان آمن ولتجنب الإعتقال أيضاً.

القائمون على تلك المشافي هم عادة من الأطباء والممرضين الذين يلبون القسم الذي أقسموه حين تخرجهم من كلية الطب وبالتالي لا يقصرون في أداء واجبهم الإنساني، عدا عن ميولهم وأفكارهم التي تلتقي مع غالبية الشعب السوري الذي ينشد الحرية والتحرر من حكم الاستبداد والتسلط.

في مكان آخر التقينا أحد الأطباء بعد أن أطمئن بأننا لن ننشر إسمه، وهو الطبيب الذي عالج الشاب الجريح محمد. بعد أن سلم علينا تأسف لتأخره في الموافقة على اللقاء مشيراً إلى ضرورة الحرص كون النظام لا يرحم أحداً حتى ولو كان طبيباً.

يقول الطبيب شارحاً: “أنا متخصص بالجراحة وقد اتفقت مع عدد من الأطباء على مساعدة جرحى التظاهرات في منطقتنا، أما بالنسبة للشاب محمد فنحن أجرينا له عمل جراحي صعب حين أخرجنا مقذوف الطلقة من كاحله ونظفنا الجرح وعملنا على تعقيمه واليوم يأخذ مضادات حيوية وأدوية أخرى لتخفيف الورم في القدم وبعد فترة لا بد من عملية أخرى بسبب تفتت العظم عنده”.

حكى لنا الطبيب عن “الرجولة” التي يتمتع بها الشبان الجرحى من خلال تحملهم الألم وكذلك رجولة الشبان الذين يؤمّنون البيوت المناسبة من أجل الاسعاف الأولي وربما العملية مع تأمينهم أيضاً لكميات من القطن والشاش والحقن والمعقمات أما المخدر والمستلزمات الأخرى فيجلبها عادة الأطباء أنفسهم.

زيارتنا إلى الطبيب بمرافقة أبو رأفت لم تكن طويلة بل محكومة بأجوبته المختصرة على أسئلتنا، في طريق العودة أخذنا الرجل إلى المكان الذي أصيب فيه محمد وعدد من الشبان الآخرين.

المشفى الميداني هو مشفى “طيار” بامتياز كون المريض ينتقل إلى أكثر من مكان ربما في ساعة واحدة وذلك خوفاً من “العواينية” (الذين يتعاملون مع المخابرات ويشون بالناس) الذين ينتشرون في الاحياء ويخبرون الأمن عن مكان الجرحى.

يؤكد أبو رأفت أنه في حالة محمد قد نقل إلى منزلين قبل المنزل الذي يرقد فيه اليوم بسبب “العواينية” والمخبرين. وكشف الرجل أن محمد قد نقل منذ الإصابة إلى بيت قريب من مكان التظاهر وقد كشف هذا البيت من مخبر كان في الحي وبعد ذلك نقل محمد إلى منزل جديد ومكث نحو أسبوع ولكي يكون أكثر أمناً جلبناه منذ يومين إلى هذا المنزل والكلام لأبي رأفت.

عدد كبير من سكان الأحياء المحيطة بدمشق أو تلك البعيدة ممن كانوا يؤجرون بيوتهم للقادمين إلى العاصمة من محافظات أخرى بقصد العمل قد أوقفوا عملية الإيجار منذ بدء التظاهرات، رغم ما تحققه من دخل مالي.

أحد أصحاب البيوت التي تستخدم كمشفى ميداني شرح لنا: “كان بيتي للإيجار ومنذ بداية التظاهرات في سوريا توقفت عن التأجير تحسباً لحاجته كمشفى ميداني أو لأضع فيه عائلة مهجرة من محافظة أخرى”. وقال الرجل حين سألناه عن المسؤولية إذا ما داهم الأمن منزله: “حياتي ليست أغلى من حياة الشبان الذين يواجهون الموت”.

في الريف السوري وضع المشافي “الطيارة” أصعب بكثير من المدن الكبرى وخاصة لجهة معرفة المخبرين بها، كون القرى صغيرة وأي جريح أو مصاب نتيجة لاطلاق النار ستسمع بحالته كل القرية.

على بعد ما يقارب 360 كيلومتر من دمشق وصلنا إلى محافظة ادلب في الشمال السوري وهي المحافظة المحاذية للحدود التركية. أخبرنا أحد الشبان الذي رافقنا في الجولة أن قربهم من الحدود كانت مفيدة في عملية الإسعاف، حين نقلوا بعض المصابين إلى مدينة انطاكيا بعد تقديم الاسعاف الأولي لهم وتحديداً في مناطق جسر الشغور والقرى القريبة من الحدود.

ومع ذلك قال الشاب “دائماً نحن بحاجة للمشفى الميداني لأن الحدود أحيانا غير سالكة بسبب دوريات الأمن التي تقتل المصاب ومن يرافقه إذا ما كانوا تحت سيطرة نيرانهم قرب الحدود”.

ومع كل ذلك يحاسب الشبان الذين يديرون المشافي والأطباء الذين يسعفون المصابين إذا ما تم اعتقالهم كأنهم قد قاموا بجرائم كبرى أمام الجهات الأمنية، إذ أخبرنا أحد الشبان وهو من التنسيقيات المحلية لإحدى المدن التابعة لمحافظة ادلب أن قوات الجيش والأمن اقتحموا مؤخراً مدينته وكان هدفهم الأول بعض الأطباء والصيادلة والممرضين الذين عالجوا جرحى المدينة في تظاهرة سلمية أمطرها عناصر الأمن بالنار قبل أسابيع.

وكشف لنا الشاب: “اعتقلوا أربعة أطباء وممرض وصيدلاني وساقوهم بطريقة وحشية دون أي احترام، وجرمهم كان بأنهم أسعفوا مصابين وقدموا لهم الدواء في أحد المشافي الميدانية”.

بكل الأحوال لا يثق المتظاهرون الذين يطالبون بالحرية واسقاط نظام بشار الأسد بأي مشفى حكومي اليوم، لأن قوات الأمن مسيطرة تماماً على تلك المشافي. وسمعنا الكثير من القصص المأساوية لمصابين دخلوا الى تلك المشافي أحياء واصابتهم خفيفة وخرجوا بلا روح على نقالات.

تبقى المشافي الميدانية والطيارة المتنقلة تجربة السوريين الجديدة في العلاج من “دخول” الرصاص إلى أجسادهم حين تطلقه عناصر الأمن في محاولة لتمزيق أحلامهم في الحرية والتحرر من نظام الاستبداد. والتقينا أكثر من جريح خلال جولتنا وجميعهم ينتظرون الشفاء للعودة للمظاهرة مرة أخرى، دون خوف أو تفكير بالتراجع عن مطالب الشعب السوري.