المسحراتي في رمضان سوريا بين الماضي والحاضر

مسحراتي القامشلي تصوير شفان ابراهيم

مسحراتي القامشلي تصوير شفان ابراهيم

"يشعر طلعت بسعادة كبيرة حين يُردد في كل ليلة بحدود الساعة الواحدة والنصف حتى توقيت الإمساك، الشعائر مثل "إصح يا نايم وحّد الدايم.. وقول نويت بكرا إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم""

شفان إبراهيم

غالباً ما ترتبط جملة من الأعمال والعادات بشهر رمضان في العالم الإسلامي. الصوم بما له من تاريخ طويل، موجود منذ قديم العصور، لدى العديد من الأديان على اختلاف عادات وتقاليد كل ديانة وملة.

استقبل السوريون شهر رمضان هذا العام كما في الأعوام الأخيرة بظل ظروف قاسية ومأساوية. مع ذالك حافظ شهر الصوم على جملة من العادات والتقاليد والموروثات الجميلة. سواء من الإقبال على شراء المعروك والعرق سوس، أو انتظار ضربة المدفع معلنا حلول الإفطار، أو كما يُسمى بلهجة أبناء القامشلي (الطوب) إلى صوت المسحراتي ونداءاته الجميلة.

ارتبط أسم المسحراتي بشهر رمضان الكريم منذ أيام الرسول (ص) وكان بلال بن رباح أول مسحراتي في التاريخ الإسلامي. ومع مرور الزمن تغيرت آلية عمل المسحراتي، لكن الهدف بقي نفسه.

سابقاً كان المسحراتي يجول في الشوارع والساحات وينادي بصوته العذب لإيقاظ النائمين ودعوتهم إلى التسحر قبل الإمساك. لكن العادة تطورت إلى استعمال الطبل والنداءات والضرب على أبواب البيوت. حتى الطبلة تغيرت من صغيرة بحجم اليد والضرب عليها، إلى طبلة كبيرة تُسمى داهول، ويتم الضرب عليها بعصاتين إحداها غليظة وأخرى رفيعة.

المسحراتي طلعت نعيم يقول لحكايات سوريا: “منذ ست سنوات وأنا أقوم بهذا العمل الخيري، لا أبتغي منه مالاً ولا صدقة، فقط أقوم بواجبي كمسلم أرغب في خدمة الذين يصومون ويرغبون بتناول وجبة السحور. أحمل طبلي وأجول في الحارات والأزقة، أدق على الأبواب، وأردد الأناشيد. منهم من يمنحني بعض المال أو الطعام أو الثياب، أنا لا أطلب منهم أبداً، وكل همي هو المساعدة فقط لا غير”.

تعلم طلعت عمل المسحراتي من صديقه شيخو، الذي توفي أخيراً. وأتفق طلعت مع صديقه المسحراتي جلال على تقاسم أحياء المنطقة الشرقية بينهما. وكانت منطقة حي الأشورية من نصيب المسحراتي طلعت. بينما يقوم جلال بعمل المسحراتي في إحياء أخرى مثل جرنك والعنترية وقناة السويس.

ويتحسر طلعت على ما وصلت إليه الأمور في المنطقة فيقول: سابقاً كنا نخرج مجموعة من الشباب نردد التراتيل والأغاني الخفيفة وحتى الدبكات الشعبية لإيقاظ النائمين، لكن اليوم الهجرة أثرت على كل شيء فأغلب رفاقي أصبحوا في الخارج ووجدت نفسي وحيداً”.

لا يخلو عمل المسحراتي من المشاكل ويروي طلعت كيف أن بعضهم شتمه لأنه رن جرس الباب.

يشعر طلعت بسعادة كبيرة حين يُردد في كل ليلة بحدود الساعة الواحدة والنصف حتى توقيت الإمساك، الشعائر مثل “إصح يا نايم وحّد الدايم.. وقول نويت بكرا إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم”.. ويردد طلعت هذه الشعائر باللغتين العربية والكردية.

عن الواقع الجديد يقول طلعت: “كنت أعرف سكان بعض البيوت، لكني سنويا أتفاجأ حين أرن جرس باب أحد البيوت بتبدل ساكنيه وقاطنيه، وهجرة مالكيه الأصليين. البعض يطلب مني أن لا أعيد الكرة مرة ثانية لأنهم لن يصوموا في ظروف لا يستطيعون شرا وجبة خفيفة على الإفطار. وبعضهم يطلب مني تكرار العمل دوماً، والبعض الأخر استبدل وظيفة المسحراتي بمنبه الموبايل، ومنهم من لاينام قبل أن يتسحر”.

شيراز وزوجته مهاباد كانا جالسين يسترقان النظر إلى المسحراتي وهو يدلو بحديثه لحكايات سوريا: الزوجين أصبحا وحيدين، فابنهما البكر مُلتحق بقوات البشمركة في كردستان العراق، وابنهما الآخر ملتحق بقوات الحماية الشعبية في القامشلي، وبناتهما الثلاث متزوجات في أوروبا، ووسط وحدتهم وتقدمهم في العمر، وعدم تمكنهم من الصيام، كانت الحيرة تأكل وجهيهما وهما يأملان رؤية أبنائهما في صبيحة يوم العيد.

أم ربيع نازحة من دير الزور تقول لحكايات سوريا: “كل شيء تغير، حتى صوت المسحراتي بالنسبة لنا تغير. لا نستطيع تأمين المواد اللازمة لوجبة الإفطار بسبب غلاء الأسعار. الحرب غيرت كل شيء. أنا سعيدة حين أسمع الأناشيد، لكني أتألم لأننا لا نصوم بسبب الفقر. أشتاق إلى مُنشد حينا في الجورة، حين أعود إلى حارتي في دير الزور فإني سأبحث عن المنشد وأطلب منه أن يستمر في العمل، أتمنى أن يكون لا يزال على قيد الحياة”.

أما فراس فيقول “لم تعد هناك حاجة للمسحراتي، فأجهزة الموبايل والمنبهات أصبحت تسد مكان وظيفة المسحراتي، إضافة إلى أننا لا ننام حتى يحين وقت السحور. مع ذالك نقوم بتكريم المسحراتي ومنحه بعض المال كصدقات أو هبات وزكاة العيد. لا أرغب بجرح مشاعره، فهو يتعب وينادي ويضرب على الطبل، من المهم جداً أن يكون للمسحراتي تقديره واحترامه، حتى إني أفكر أن أدعوه إلى الإفطار معنا، تقديراً لجهوده وأتعابه”.

من جانبه فإن أيمن يشكر المسحراتي، فبفضله ينهض ويفتح دُكانه الصغير في حيّ الاشورية، ويساعد في تأمين حاجيات أهالي الحي لوجبة السحور، كما أن أيمن طلب من المسحراتي أن يعقد جلسات أمام دُكانه للحديث عن قصص وروايات قديمة “كحكواتي” لكن طلعت رفض الأمر، لانشغاله بعمل المسحراتي.

مالك لديه رأي آخر. ويقول مالك لحكايات سوريا: “لم كل هذا التخلف، ماذا تعني عادة المسحراتي، لم يعد الصائم ينام قبل وجبة السحور، صوت الطبل مزعج وهو يعيدنا إلى فترات ماضية في التاريخ، كما أن رن الجرس يوقظ الأطفال، أنا طلبت منه أن لا يرن جرس بابي، وأن يبتعد بطبله عن منزلي”.

تتأمل أم حسن منظر المسحراتي وهو يردد الأناشيد، فتتنهد بحسرة وتتذكر أبنائها المغتربين وتقول: “قبل بضعة أعوام كان أبنائي يملأون منزلي ويتسابقون لتجهيز وجبة السحور بدلاً عني. كانوا يستيقظون على صوت المسحراتي، ثم ينادون علي كي أتسحر معهم. اليوم كل شيء تغير، أبنائي كلهم في الخارج، حتى صوت المسحراتي تغير”.

عادة ما كانت الأحياء في القامشلي تعجّ بالأهالي والأسر التي تنتظر صوت المسحراتي. لكن تغيير التركيبة السكانية سواء من حيث العدد، أو من حيث الاختلاط مع النازحين من باقي المحافظات غير الكثير من العادات والتقاليد.