“الله، تركيا… بشار وبس”: عن مظاهرة غير متوقعة
في المقال التالي تروي رشا رامي مشاهداتها أثناء مظاهرة جرت يوم السبت 1 أيلول/سبتمبر في مدينة أنطاكيا التركية، عاصمة ولاية هاتاي المتاخمة للحدود مع سوريا. التظاهرة كانت تعبر عن رفض التعاون مع المعارضة السورية، وتدعو حكومة أردوغان إلى طرد اللاجئين السوريين. ألغيت مظاهرة مماثلة كانت مقررة يوم السبت في الثامن من أيلول/سبتمبر، كما بدأت الشرطة مؤخراً الطلب من اللاجئين السوريين العيش داخل المخيمات أو ترك المنطقة.
رشا رامي
لم أعرف ما هو الشعور الذي راودني عندما رأيت الآلاف من الأتراك مجتمعين في أنطاكية ويهتفون باسم سوريا، وطني الذي أرهقه نزاع أبنائه على أرضه وتدخل الغير بمشاكله.
هل هي مشاعر فرح لأنهم يفكرون بمدينتي حلب التي تقصف ليل نهار، أم مشاعر غضب كونهم يهتفون بحياة من يقتل أحجار مدينتي وأشجارها وأبناءها؟
بتاريخ 1أيلول/سبتمبر إجتمع في شوارع أنطاكية الآلاف، رفضاً للتدخل التركي في الأزمة السورية لما يرونه في ذلك من آثار سلبية عليهم وعلاقتهم بسوريا. قدم المتظاهرون من جميع أنحاء لواء اسكندرون، وقال الذين تحدثوا إليّ إنهم أتوا كأفراد ولم تدعيهم جهة معينة.
رُفع في المظاهرة العديد من الشعارات، منها على سبيل المثال: “لا نريد الحرب مع أهلنا في سوريا”؛ “لا للتدخل التركي في الشؤون السورية”؛ “لا لوجود القاعدة على أراضينا”. كل هذه الشعارات التي ارتفعت في سماء أنطاكية كانت تطالب بحقوق طبيعية لا يمكن نكرانها. ولكن الملفت في المظاهرة كان الهتاف باسم الرئيس الأسد “الله سوريا وبشار وبس” باللغة العربية (معظم المتظاهرين يتكلمون العربية لكون لواء اسكندرون اقتطع من الأراضي السورية بعد الحرب العالمية الأولى)، بالإضافة إلى الدعوة إلى طرد أعضاء الجيش الحر وعائلاتهم ولاجئي المخيمات!
أثناء التحضير للمظاهرة، والتي تعد من الأكبر التي شهدتها تركيا منذ بدء الأزمة السورية، لم يستطع المنظمون الحصول على مذكرة ترخيص لإقامتها فاضطروا إلى تنظيمها بشكل سري في البداية وتوزيع المناشير قبل يوم واحد منها. والسبب بحسب أحد المنظمين يعود إلى عدم رغبة الدولة التركية بإظهار رفض الشعب التركي لسياسة الدولة أمام الرأي العام العالمي، خصوصاً بسبب الإهتمام الإعلامي الذي حظيت به هذه التظاهرة.
أثناء تجوالي مع المتظاهرين وحديثي مع بعضهم، إجتمعت آراء الجميع على أنّ سياسة أردوغان أفقدتهم احترام الشعب والقيادة السوريين، كما أفقدتهم الكثير من أعمالهم مع الجانب السوري التي ازدهرت خلال السنوات الأخيرة . يقول بوراك، صاحب محل أنسجة، إنه كان يعتمد في تجارته على الأسواق الحلبية بشكل كبير ولكن “سياسة دولته” سببت له خسائر فادحة.
أما هاندة، فقد خرجت في المظاهرة وهي تحمل مطالب أخرى بعيداً عن السياسة والإقتصاد؛ مخاوف هاندة هي الحرية الشخصية التي بدأت تُحرم منها بوجود أعضاء القاعدة والجيش الحر، بحسب رأيها.
“لم نعتد رؤية أشخاص ملتحين يتجولون في أسواقنا ويقطنون مبانينا. يعيشون حياة طبيعية في الصباح ونحن نعلم أنهم يذهبون لمحاربة الأسد في الليل ويقتلون الجنود السوريين،” تقول هاندة. “إنهم ارهابيون ونحن لا نريد المجرمين السوريين والمرتزقة بين أبنائنا.”
عندما تنبه المتظاهرون إلى أني أجري مقابلات تجمع حولي الكثير منهم. بادروني بالسؤال عن جنسيتي، ظناً منهم أني أعمل لدى إحدى القنوات “المغرضة،” وعندما عرفوا أنني سورية هاجموني كوني لا أنقل كلمة الحق ولا الظلم الذي يواجهه الأسد.
بصعوبة استطعت إقناعهم أني أغطي أخبار المظاهرة كي أنقل مشاعرهم الصادقة للشعب السوري ولقياداته الرسمية، وأني لا أعمل لحساب تلك القنوات التي أقسموا أن يقتلوا أي شخص يعمل بها!
تطوع أحد المتظاهرين ليدلي بمعلوماته – التي لم أستطع التأكد من صحتها من مصادر رسمية – ولكن وافق عليها جميع من التف من حولي. يقول راهج: “سيارات الإسعاف باتت لنقل السلاح إلى سوريا وليس للمرضى، والمستشفيات القريبة من الحدود لإسعاف الإرهابيين والقتلة القادمين من سوريا.”
ولدى سؤالي عن أديانهم وطوائفهم – وهو سؤال عادي في تركيا- خاصة عندما رأيت الصور الكثيرة لبشار الأسد والإمام علي، تبيّن أنهم جميعاً من الطائفة العلوية. سألت أحدهم إن كان دعمه للرئيس الأسد يعود إلى أنهما من الطائفة نفسها، فلم يستطع أن ينكر هذه الحقيقة، وأضاف: “الأسد شاب علوي عرف كيف يحكم بلده ويطوره، فلِما يتم استبداله بآخر سني سيهدم البلد بأفكاره الرجعية كما يفعل أردوغان اليوم؟”
سألته: “إن لم تعجبكم سياسة أردوغان، لما لا تطالبوا بعودة أراضي اللواء إلى سوريا، بدل أن تطالبوا بعدم التدخل في الشؤون السورية؟ وبهذه الحال تستطيعون أن تدافعوا عن وطنكم الأصلي، وتزداد نسبة المؤيدين للرئيس الأسد؟”
لم يجبني أي من الحاضرين عن سؤالي هذا! بل اكتفوا بهز رؤوسهم ونظرات الإستخفاف بعيونهم تجاهي. الحقيقة أني لم أستطع أن أفهم هذه النظرات؛ هل هي موافقة منهم على فكرتي؟ أم أنهم يقولون من هذه الغبية التي تناقشنا بهذا المنطق؟”
بعد أن انفضت المظاهرة وتفرق المشاركون، إجتمع بعضهم في أحد المقاهي القريبة من مكان التجمع، وقد كنت على موعد مع أحد شباب الثورة في حلب في المكان ذاته. عند وصولي كان يتحدث أ.ب. مع أحد المتظاهرين. كانت ملامح وجهيهما تظهر غضباً كبيراً لم يستطيعا أن يخرجاه. بعد أن ذهب المتظاهر، أخبرني أ.ب. أن الشاب لاحظ صورة علم الثورة في يده، فسأله: “لماذا تفتعلون المشاكل في بلادكم وقد كانت آمنة؟ ماذا تريدون؟” كان جواب صديقي: “طلبي بسيط، أريد ان أكون علوياً يعيش في بلد ذي أغلبية سنية ويحكمه الإخوان المسلمون وينظم مظاهرة ضد سياسات هذا الحكم، وأن أحظى بحماية الأمن التابع لمن أتظاهر ضده، أي بكل بساطة أحلم بما تقوم به أنت اليوم في بلدك… ولكن في بلدي سوريا.”
سكت أ.ب. قليلاً وهو ينظر إلى اللافتات الملقاة على الأرض، وقال: “إنهم يهتفون بحياة عدوي، حياة من قتل أعز اصدقائي! وأبعدني عن مدينتي وأهلي، وأنا لا أستطيع أن أصرخ بوجههم بأن ذلك ظلم، وبأن السوريين على اختلاف انتماءاتهم وآرائهم السياسية وبغض النظر إن كانوا منتسبين إلى الجيش الحر أم لا، لم يستطيعوا أن يخرجوا من منازلهم اليوم خوفاً على حياتهم. هذا الخوف هربوا منه إلى أراضيكم وأنتم اليوم تطردونهم جميعاً دون تمييز بينهم.”
عرفت في نهاية اليوم أني اشارك أ.ب. شعوره تجاه المظاهرة. لم يكن شعور فرح بمشاركة الجيران الأتراك همومنا كما كنت أظن، ولكنه شعور غضب منهم كونهم لم يعيشوا ماعشناه؛ لم يفقدوا بيوتهم وأقربائهم وأصدقائهم. غضب لأنهم لم يشاركونا الهم والخوف الذي نعيشه. يخافون على مصالحهم فحسب، سواء كانت إقتصادية، سياسية، أم مذهبية. في تلك المظاهرة كانوا خائفين على أنفسهم، ليس على شعبي ولا على بلدي.