اللعب على الحبال: السياسة الخارجية السورية في ظل بشار الأسد
باشر الرئيس السوري بشار الأسد جولة إلى أمريكا اللاتينية في حزيران الماضي، اعتبرت على أنها محاولة للتواصل مع ملايين من أحفاد المهاجرين السوريين واللبنانيين هناك، لكن يبدو أنها كانت أكثر لإيجاد بدائل عن الدعم الغربي للتنمية الاقتصادية في سوريا.
التقى الأسد بنظيريه الفنزويلي والبرازيلي، هوغو شافيز ولولا دا سيلفا. تصافحوا بالأيدي، وتبادلوا تعابير الإعجاب والمديح، والتقطوا صوراً تذكارية. ذهبت الرحلة بالأسد أيضاً إلى كوبا والأرجنتين.
صحيح أن سوريا نجحت خلال العامين الماضيين بإخراج نفسها من عزلة دولية استمرت لعدة سنوات. تبدي واشنطن مزيدا من الاستعداد للانخراط مع سوريا بعد سنوات من تجنبها.
لكن الانجازات الملموسة على الجبهة السورية- الغربية لم تتحقق بعد. في غضون ذلك، يرى كثيرون أن سوريا تتمتع بوضع مريح اليوم كقوة إقليمية. تلعب دمشق من جديد لعبة ذات حدين، إذ تستمر في دعم الميليشيات المعادية لإسرائيل في المنطقة، وتحافظ على روابط قوية مع إيران بينما تغازل الغرب اقتصاديا وسياسيا.
في غضون ذلك، وضعت النزاعات التي لم تحل في المنطقة، من العراق إلى المواجهة حول برنامج التسلح النووي الإيراني المزعوم، إلى مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية المؤجلة، وضعت دمشق في موقف قوي للاحتفاظ بأوراقها الإقليمية حتى تحين اللحظة المناسبة.
ما هو مؤكد بالنسبة للكثير من المراقبين، أنه بعد عشر سنوات في السلطة، أثبت الأسد مرونة وقدرة نظامه على التكيف. فقد قطعت سوريا شوطا طويلا منذ تولي الأسد السلطة في حزيران 2000.
بداية صعبة
لكن طريق الرئيس الشاب لم تكن بدون عثرات.
خلال السنوات الأولى من حكمه، خسرت دمشق المكانة الدولية التي كان والده قادرا على الاحتفاظ بها.
كان حافظ الأسد، الذي عرف بدهاء دبلوماسيته، قادراً على الحفاظ على التوازن في علاقاته مع الغرب، موسكو، إيران والدول العربية، خلال سيطرته على البلاد لنحو ثلاثة عقود..
مع رؤية مناسبة للسياسة الاقلمية والدولية، كان الأسد الأب قادراً على إبقاء سوريا كلاعب أساسي في النزاع العربي الإسرائيلي، الحرب الأهلية اللبنانية، بالإضافة إلى علاقات العالم العربي مع إيران. عندما توفي عام 2000، كان من الواضح أن المجتمع الدولي رحب بانتقال السلطة إلى نجله بشار. كانت المرة الأولى في المنطقة العربية التي يمرر فيها رئيس دولة جمهورية زمام السلطة إلى ابنه.
بالعودة إلى ذلك الوقت، اعتقد قادة العالم أنه من الأفضل إدامة الإرث البراغماتي للأب، معتقدين أن “الاستقرار أفضل من احتمالات الفوضى”، في حال تغير النظام، كما يقول محلل سياسي في دمشق، فضل عدم الكشف عن اسمه.
العديد من المراقبين شككوا، مع ذلك، بأن الابن سيتملك المهارة السياسية الضرورية للحفاظ على سياسة والده الخطرة، والتي كانت تتمحور حول استغلال الخلافات وضعف القوى المجاورة والدولية.
أيضا، بعد عام 2000، فإن عوامل كثيرة عقدت الأمور بشكل كبير في الشرق الأوسط، وجعلت إقامة علاقات جيدة- أو على الأقل محايدة- مع القوى الدولية والإقليمية أكثر صعوبة بالنسبة للأسد الابن ، لا سيما الولايات المتحدة وما يعرف بدول الاعتدال العربي، السعودية ومصر.
بعد بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، خاصة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول التي أدت إلى سياسة أمريكية أكثر عدوانية في المنطقة، تبنت دمشق خطابا قوميا مقاوما للهيمنة الغربية على الشرق الأوسط، ومدافعة عن حقوق العرب و خاصة الفلسطينيين.
في هذه الأثناء، تعاونت الاستخبارات السورية سراً مع أجهزة الأمن الأميركية في “حربها على الإرهاب”.
لكن استمرار تطبيق هذه الاستراتيجية ذات الوجهين أصبح في غاية الصعوبة مع غزو العراق من قبل القوات الأميركية عام 2003، وما تلاها من سقوط نظام صدام حسين البعثي في بغداد.
لأول مرة منذ استلام بشار السلطة في البلاد، شعر النظام في دمشق بحرارة تهديد وجودي حقيقي. التغيير الجذري في بنية السلطة في العراق أنذر باحتمال تغيير مماثل في سوريا.
وقفت دمشق بحزم ضد احتلال العراق. في غضون ذلك، طبق الأميركيون سياسة عدوانية ضد الجماعات الإسلامية المسلحة في لبنان، فلسطين، والعراق، آملين بتغيير ديناميكية السلطة في المنطقة وصناعة “شرق أوسط جديد”.
العقوبات الأمريكية:
بعد عام 2003، صعدت واشنطن من ضغوطها على دمشق لقطع علاقاتها مع حماس وحزب الله ومن خلفهما إيران التي تدعمهما. استجابت سورية لهذه الضغوط بالانخراط أكثر في المعسكر الإيراني.
يقول بعض المحللين أنه على الرغم من استمرار السوريين بتعزيز علاقاتهم مع إيران كحليفهم الاستراتيجي الرئيسي في الشرق الأوسط، فإنهم لم يكونوا سعداء بزيادة النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما هدد موقعهم كوسيط أساسي بين الجماعات المختلفة المتناحرة.
في عدة حالات في العراق، بدا أن كلاً من دمشق وطهران تملكان أهدافا متباينة، مع الدعم السوري للقبائل السنية والعناصر البعثية السابقة على حساب القوى الشيعية.
فيما بعد، أظهر اغتيال قائد عسكري بارز في حزب الله، في دمشق عام 2008، ثم اغتيال ضابط سوري كان مسؤولا عن الاتصالات مع الجماعة الاسلامية اللبنانية في ظروف غامضة، الطبيعة الصعبة للعلاقات بين الدولتين.
لكن مراقبين آخرين يعتقدون أن ارتباط سوريا الوثيق بإيران أعطاها في النهاية قوة أكثر على المستوى الإقليمي للعب دور مستقبلي كوسيط بين الغرب وإيران.
في نهاية عام 2003، في ظل ولاية الرئيس جورج بوش، مرر الكونغرس قانون محاسبة سوريا، الذي فرض عقوبات ضد دمشق بزعم دعمها للإرهاب وبشكل خاص تسهيل مرور المقاتلين إلى العراق.
اتهمت سوريا أيضا بمحاولة تطوير أسلحة دمار شامل. عام 2004، دفعت واشنطن باتجاه إصدار قرار من قبل مجلس الأمن دعا بشكل غير مباشر دمشق لسحب قواتها من لبنان، حيث كانت تتواجد منذ عام 1976.
طالب القرار 1559 أيضا بنزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية، في إشارة واضحة إلى حزب الله.
جاء القرار كاستجابة لاستمرار التدخل السوري في الشؤون اللبنانية. رفضت سوريا التخلي عن الورقة اللبنانية الاستراتيجية، خاصة أن سوريا كانت تسعى لحرب بالوكالة مع اسرائيل عبر حزب الله في لبنان، كما يقول المحلل.
اتحذت العلاقات بين سوريا والغرب أمنحا أكثر دراماتيكية عام 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. ألقي اللوم بدرجة كبيرة على دمشق بالضلوع في اغتياله، وهو ما أنكرته سوريا.
أجبرت سوريا في النهاية على سحب جيشها من لبنان بعد أشهر قليلة من اغتيال الحريري، الذي شكل بداية عزلة دولية واقليمية عليها.
سحبت واشنطن سفيرها من دمشق، وساءت العلاقات بين سوريا ودول عربية أخرى، وبشكل أساسي السعودية، التي كانت لديها علاقات قوية مع الحريري.
جمد الاتحاد الأوروبي الاتفاق الاقتصادي مع دمشق.
وضع تشكيل تحقيق دولي للنظر في اغتيال الحريري سوريا في وضع أكثر هشاشة. لكن دمشق كانت لا تزال قادرة على الصمود.
تغير الأحوال
عام 2006، بدأ الوضع بالتحول لصالح سوريا. بعد أن نجح حزب الله في مقاومة المحاولة الإسرائيلية المدعومة أمريكيا للقضاء عليه، قطفت دمشق ثمار المواجهة العسكرية، التي كشفت عجز واشنطن عن إعادة توزيع موازين القوى في المنطقة.
أكثر من ذلك، منح الفشل الأمريكي في تحقيق الاستقرار في العراق ثقة أكبر لسوريا. في هذه الأثناء، بدأت دمشق بإرسال إشارات إلى المجتمع الدولي بأنها مستعدة للتعاون في عدد من الملفات.
عام 2007، بدأت سوريا مباحثات سلام غير مباشرة مع إسرائيل بوساطة تركية. لاحقا عام 2008، لعبت سوريا دورا فعالا في السماح بعقد اتفاق بين الأطراف المتنازعة في لبنان التي كانت على شفى حرب أهلية.
في المقابل، مهدت فرنسا الطريق للسوريين لكسر عزلتهم الدولية. انتخاب الديمقراطي باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، ساعد سوريا أكثر لاستعادة مكانتها الإقليمية. دول عربية أخرى تبعتها في استعادة علاقاتها مع سوريا.
قطع أوباما مع سياسة سلفه تجاه دمشق بفتح “قنوات اتصال” مع السوريين. قال مراقبون أن الغرب كان يأمل بإبعاد سوريا عن حليفتها إيران.
خلال السنتين الأخيرتين، استقبلت دمشق عددا من الوفود الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية من الولايات المتحدة وأوروبا. رحبت دمشق بهذه الإشارات على أنها دليل على اعتراف العالم بدورها المهم في المنطقة.
لكن بعض الشكوك تحوم حول ما إذا كانت سوريا قد أصبحت بالفعل خارج دائرة الخطر. قال أحد المحللين بأن الولايات المتحدة وسوريا لم تحققا أي تقدم في علاقاتهما بعد.
تم تأجيل تعيين سفير أميركي في سوريا بعد غياب خمس سنوات. تم ترشيح روبرت فورد، الذي خدم في العراق، من قبل واشنطن، لكن الكونغرس لم يوافق بعد على القرار. أكثر من ذلك، مددت الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية المفروضة على دمشق، على الرغم من الإعلان عن عدد من التسهيلات فيما يتعلق بمنتجات تكنولوجية وشؤون الطيران.
في غضون ذلك، لم يبد السوريون أي استعداد للتخلي عن علاقاتهم مع إيران.
لا ترى دمشق أن هناك أي حوافز حقيقية لتغير توجهاتها في المنطقة، مع اسرائيل التي من الواضح أنها غير مستعدة للتخلي عن هضبة الجولان، المحتلة منذ عام 1967.
يرى بعض المحللين أنه طالما بقيت المنطقة في حالة من الاضطراب وعدم اليقين، فإن بمقدور سوريا الإحتفاظ بأوراقها الإقليمية، بشكل خاص، تأثيرها على حماس وحزب الله.
لكن آخرين يقولون بأن سوريا لا تستطيع احتمال البقاء مربوطة إلى إيران طويلا. وفقا لرضوان زيادة، وهو محلل سياسي سوري يقيم حاليا في الولايات المتحدة، فإن الأوضاع الاقتصادية في سوريا مريعة بسبب تراجع عائدات الدولة، وأن قدرة البلاد على الاحتفاظ بدور اقليمي فعال، محدود، بسبب حاجاتها الاقتصادية الضاغطة.
وأضاف بأن عوامل عديدة أخرى تبقي سوريا قيد المراقبة.
“في نهاية العام، ستكون نتيجة المحكمة الدولية الخاصة بالحريري أوضح. سيوضح هذا ما إذا كانت سوريا قد أصبحت فعلا خارج دائرة الخطر أم لا”.