الكاميرا في مواجهة القاتل

تحديث: قتل الناشط والمخرج السوري باسل شحادة يوم 28 أيار/مايو 2012. من أبرز أعماله فيلم قصير بعنوان هدية صباح يوم السبت، وهو مبني على مقابلة أجراها مع أحد الأطفال اللبنانيين الذين نجوا من الحرب عام 2006 في لبنان.

ضجت شبكة الإنترنت بمقاطع الفيديو التوثيقية منذ بداية الثورة السورية، محاربة بذلك التعتيم الإعلامي الذي فرضه النظام على وسائل الإعلام كافة. فكانت هذه الفيديوهات الشاهد الرئيسي على جرائم النظام، والمادة الخبرية الأهم للمحطات التليفيزيونية ووسائل الإعلام الأخرى، والراوي الأمثل لقصص التعذيب التي يقوم بها الأمن السوري وأتباعه تجاه الشعب السوري الأعزل. إستخدم الناشطون في تصوير المقاطع التوثيقية كل الوسائل المتاحة بين أيديهم من الهاتف المحمول إلى الكاميرات الصغيرة، متحدين بذلك نظاماً قمعياً اعتبر ما يقومون به أخطر من المقاومة المسلحة، فقام بملاحقتهم واعتقالهم والتنكيل بهم.

لكن هذا لم يثنِ عزيمة الثوار الذين اعتبروا أنّ مهمتهم الرئيسية لمواجهة النظام السوري هي وضع مرآة أمام وجهه، ليعكسوا عبرها للعالم أجمع هذا الكم الكبير من الوحشية والاستبداد، الذي تمثّل في عمليات الإعتقال والمداهمات والقتل والقصف وحوادث التعذيب بحق المتظاهرين السلميين.

ولأن الإعلام السوري الرسمي حاول بكل الطرق خلق صورة أخرى للأحداث وواقعاً مختلفاً ضمن أطروحة المؤامرة التي اخترعتها الحكومة، فقد قام العديد من المخرجين، ورغم الملاحقة الشرسة، بتصوير أفلام تسجيلية عن المناطق الساخنة في سوريا، روت حكايات المناطق والبلدات المنكوبة، قصص أشخاص عاشوا الحراك الشعبي فيها، وكيف تعرضوا لكافة أنواع التعذيب. وإن كانت بعض هذه الأفلام لا ترتقي إلى قواعد السينما الوثائقية الإحترافية إلا أنها كانت بداية جديدة لخلق قواعد أكثر مرونة للفيلم الوثائقي، محكومةً بالظروف المحيطة والمعدات البسيطة.

من هذه الأفلام “نشيد البقاء – الوعر” الذي صورته مخرجة سورية بشكل سري في منطقة الوعر في حمص وذلك في شهر رمضان 2011. ويروي الفيلم شهادات من أهل المدينة ولقاءً خاصاً مع حارس مرمى منتخب الشباب السوري عبد الباسط الساروت الذي قاد مظاهرات مطالبة بإسقاط النظام، مؤلفاً أغانٍ وألحان أصبحت هتاف المتظاهرين في كافة المناطق السورية.

أما في حماة، فقد قام أحد الناشطين بتصوير فيلم “23 دقيقة تهريب” الذي أخذ شكل برنامج عن الثورة السورية، تم تصويره قبيل اقتحام الجيش للمدينة. ودخل صانع الفيلم إلى حماة مسلحاً بكاميراته، متحدياً عيون القناصة، ليحكي قصص الناشطين هناك.

وفي الأشهر الماضية أخذت صناعة الفيلم الوثائقي الإبداعي منحى آخر أكثر احترافية وخصوصية، وذلك لأن صانعي هذه الأفلام أدركوا أن ما يقومون به ليس مجرد مادة خبرية تعرض في المحطات الإخبارية، بل وثيقة سيحتفظ بها التاريخ في ذاكرته.

مثال على ذلك فيلم “دوار الشمس – الرستن” الذي قامت بتصويره إحدى المخرجات السوريات متحدية الحصار والقصف الذي تعرضت له المنطقة من قبل الجيش السوري بالدبابات والأسلحة الثقيلة. ويحكي الفيلم قصص استهداف واغتيال الناشطين وتعذيب المرضى في السجون والمشافي، كما يسلط الضوء على شهادات لجنود انشقوا عن الجيش السوري. يصور “دوارالشمس – الرستن” جنازة لملازم أول انشق في اليوم السابق لاستشهاده، ومظاهرة مسائية تحية له ولأهله، ونصرة لحماة المحاصرة.

وقد لفتت الثورة السورية منذ يومها الأول اهتمام الصحفيين والمخرجين الأجانب، الذين توجهوا إلى سورية ليكونوا جزءاً من الحراك، وليقفوا مع الشعب السوري في ثورته من أجل الحرية والكرامة. فدخل الكثير منهم سراً، ليساعدوا في نقل صوت الناشطين إلى وسائل الإعلام التي يعملون بها. ورغم الخطر الذي تعرضوا له، والذي وصل إلى درجة القتل أحياناً، فقد قاموا بتصوير أفلام عديدة ضجّت بها وسائل إعلام أجنبية، واستخدمتها منظمات تدافع عن حقوق الإنسان كوثائق ضد النظام السوري.

وكان فيلم “سورية في جحيم القمع” للصحفية الفرنسية صوفيا عمارة، والذي صورته في الشهر الأول للثورة، مثال على ذلك. يتنقل الفيلم بين المحافظات ليروي قصص أهالي المدن السورية المحاصرة. فقد تسللت صوفيا عمارة إلى سوريا واتجهت إلى حمص وصورت فيها المظاهرات وأساليب التحضير لها، كما التقت في الرستن بالضباط الذين أعلنوا تشكيلهم الجيش الحر، وذهبت بعدها إلى حماة ورصدت هناك وحشية النظام في قصفه للمدنيين، والتقت بعائلات ضحايا 1982 الذين جرى دفنهم في الحدائق العامة. أصبح هذا الفيلم والكثير غيره جزءاً من منظومة الحراك الثوري، تتراكض لعرضها المحطات الإخبارية، والشبكات الاجتماعية على الإنترنت.

إنّ هذه التجارب غيرت مفهوم السينما الوثائقية. فالمخرجون السوريون اليوم يبتكرون طرقاً وأساليب جديدة لتواكب نضال الشعب ضد نظام قمعي حكمهم طوال أربعين عاماً. إنها بداية جديدة للمخرجين والمصورين ليخرجوا من قوقعة الترهيب التي قبعت على عدساتهم سنين طويلة، ونبضاً جديداً لسينما تسجيلية غيبت طويلاً بين رفوف مكاتب الرقابة.