الغوطة تبكي
الكل يهتف الله أكبر وأصوات الطلقات ترتفع من أماكن بعيدة. تقتحم المصفحات المدرعة الحارات وتهدم البيوت وتقتل كل ما يتحرك دون سؤال أو إستفسارفي مدن وبلدات ريف دمشق الشرقية، من عين ترما غرباً إلى كفربطنا وسقبا وحمورية وحتى دوما شرقاً. فالصورة مهما بدت مُضخمة تعد لا شيء أمام الذي حصل.
28 يناير/كانون الثاني 2012
لم تتجاوز الساعة الحادية عشر ظهراً. كانت الحياة طبيعية في بلدات ريف دمشق الشرقية. الناس تمارس أعمالها، السيارات والباصات تسير في الشوارع تحت أعين “الجيش السوري الحر” الذي لا يختلف باللباس عن الجيش النظامي والذي فرض سيطرته على الريف الشرقي في بداية العام الحالي. هجر التلاميذ المدارس منذ منتصف الشهر الأول من هذا العام نتيجة خوف الأهالي على أبنائهم من هجوم محتمل من قبل الجيش النظامي.
بعد ذلك المشهد بدقائق سُمع صوت دوي عالٍ وإطلاق نار بعيد نسبياً. لم تهتم الناس في بداية الأمر بذلك فقد إعتادت عليه في الأسابيع الأخيرة، لكن هذه المرة إختلف الأمر، فقد إقترب إطلاق النار أكثر وأكثر وبدأت القذائف تتناثر على المارة وبدأ الهلع يدب بين الناس.
إعتمد الجيش في زحفه على الغوطة الشرقية على ثلاثة خطوط عسكرية: الأول هو الخط العسكري للجيش النظامي، يتبعه خط من العناصر الأمنية والمرتزقة الذين يسيرون في ركبهم، ويتبعهم خط ثالث يتألف من عناصر الفرقة الخاصة المرتدين اللباس الأزرق المموه، وهي إحدى الفرق العسكرية التابعة لسلاح “حزب الله” اللبناني حسب أحد المنشقين الكبار.
دخلت هذه القوات الغوطة الشرقية من خمس منافذ: عن طريق عقربا وهي التي تقع في الشمال الشرقي للغوطة، لتتبعه بلدة المليحة في شرق الغوطة، ثم عين ترما وزملكا ودوما.
في اليوم الأول كانت عناصر “الجيش السوري الحر” ما زالت تتحرك في الحارات والشوارع الرئيسة لبلدة عين ترما مقتربة من بلدتي حزة وعربين، لكن المفاجأة كانت بالنسبة لهم أن الصواريخ والألغام التي قاموا بشرائها من الجيش النظامي لم تكن صالحة للإستعمال، حسب أقوال بعض العناصر العسكرية المنشقة. فكانت بمثابة ضربة قاصمة لهم، ما جعل كفتهم تهوي في الساعات الأولى. لكن الإنشقاقات في الجيش أعاد بصيصاً من الأمل إليهم. ففي بداية الهجوم وسط كفربطنا التالية لبلدة عين ترما، إنسحبت أربع دبابات معلنة إنشقاقها. وتمركزت في بلدة سقبا التي تبعد عن دمشق نحو أربعة كيلومترات مع طواقمها المؤلفة من أربعة عسكريين في كل دبابة. وإنتشر الخبر بسرعة البرق في كافة مناطق الغوطة الشرقية. وطلبت طواقم هذه الدبابات تزويدها بالمازوت، فقد إستهلكت وقودها بشكل كامل تقريباً. فجمع أهالي أحياء سقبا المازوت من منازلهم وأعطوها “للجيش السوري الحر” الذي أمد الدبابات بالوقود اللازم. وإنتشر خبر ثانٍ، وهو قصف “الجيش السوري الحر” لدبابتين في حمورية والتي تقع بين سقبا ودوما وتبعد عن دمشق نحو أربع كيلومترات ونصف.
كان الصوت الأعلى في هذا اليوم هو صوت المآذن التي تنادي الله ليغيث سكان المدن، وتحث الناس على الصبر والوقوف مع “الجيش السوري الحر” المشكل من آلاف العسكريين المنشقين. طيران الاستطلاع يجوب الأجواء. صوته طنين مزعج في الآذان. وإنتشر خبر نقص الأدوات الطبية، فهرع الناس إلى المنازل وحضروا ما تسنى لهم من أدوية. وإنتهى اليوم الأول دون ماء أو كهرباء أو إتصالات في كامل مناطق الغوطة الشرقية.
الأحد 29 يناير/كانون الثاني 2012
في ساعات الصباح الأولى سُمعت أصوات إنفجارات وسط بلدتي سقبا وحمورية. خيم صمت ممزوج برائحة الموت، سكون يسبق العاصفة في هاتين البلدتين. لم يأت إطلاق النار من أسلحة خفيفة، من بندقيات أو مسدسات، وإنما من المصفحات المدرعة، والتي أصواتها تهدر على أطراف سقبا وحمورية وإفتريس التي تقع شرق بلدة سقبا، صوت جنازيرها يصم الآذان. ما زال هناك آخر قطرة من أمل بأن يستطيع “الجيش السوري الحر” دحر قوات الجيش النظامية، لكن نتيجة خوفه من إنتقام هذا الجيش من المدنيين فضل الإنسحاب إلى غابات الغوطة. لم يهدأ إطلاق النار وأدركت الناس أن الجيش النظامي دخل البلدات.
لم يجرؤ الناس على الخروج، ولم يجرؤ أحد على فتح نافذته، وكتموا أنفاسهم خوفاً من أن تسمعهم القذائف التي تتساقط على البيوت مصحوبة بقطرات المطر المنهمرة بغزارة في ذلك اليوم.
الأثنين 30 يناير/كانون الثاني 2012
كانت الشمس ساطعة في ذلك الصباح. وصلت قوات الأمن والجيش النظامي إلى بلدتي سقبا وحمورية مخلفة وراءها ضحايا ونساء ثكالى وأولاد يتامى، بعد أن هجمت على عين ترما وحزة وكفربطنا وزملكا وعربين، مع تضارب في أعداد الضحايا لليومين الماضيين.
لم يعد هناك أثر “للجيش الوطني الحر” حتى حدود حمورية وسقبا، ولكن سمعت صوت أسلحته تقاوم الجيش النظامي في الشرق من الغوطة، مع تعتيم كامل على ما يجري في تلك الأنحاء. وركز أعضاء التنسيقيات في نشاطهم على تصوير الضحايا والجرحى ومراسلة وسائل الإعلام.
في الساعة السادسة مساء بدأت حركة الجيش النظامي في بلدتي حمورية وسقبا تخبو وترك المكان اطلالاً لما سمى بعد ذلك المدن المنكوبة. ونزل الناس يتفقدون بعضهم بعضاً ويهنؤون بعضهم على أنهم مازالوا على قيد الحياة، و يتفقدون محلاتهم التجارية وأثاث منازلهم وسياراتهم.
الثلاثاء 31 يناير/كانون الثاني 2012
صحا الناس على صدى الأحذية العسكرية في بلدتي حمورية وسقبا، وعلى أصوات باصات خضراء تابعة لعناصر الأمن والمرتزقة المرافقين لهم والذين يعرفون “بالشبيحة”، يقومون بإقتحام المنازل وإعتقال من تسنى لهم من الذكور، أطفالاً وشباباً وكهولاً. يُجبرون على النزول إلى الشارع بلباس النوم، مرتجفين من البرد الذي هجم عليهم في هذا اليوم الممزوج بالخوف. وترافقت الإعتقالات بكسر أبواب المنازل والدخول بأحذية مليئة بوحل الطريق، وسرقة أواني منزلية وأدوات كهربائية وأسطوانات غاز وحتى مؤن غذائية. وساق رجال الأمن المعتقلين كالقطيع إلى أقرب مدرسة يهتفون رغماً عنهم “بالروح بالدم نفديك يا بشار” مع صوت ضحكات عناصر الأمن ومرافقيهم الذين يطلقوا النار بالهواء ترهيباً وتخويفاً من عدم إطاعة الأمر.
مرت أربعة أيام على الغوطة الشرقية مليئة بالدماء، وسقط العشرات بين القتيل والجريح. فكان النداء الأول من حمورية بأن هناك نحو 200 شهيد في الطرقات على أهاليهم دفنهم قبل ان تأخذ قوات الأمن الجثث. وأتت نداءات أخرى من سقبا وعين ترما بأن عناصر الأمن قامت بإعتقال الكثير من الجرحى وأخذهم إلى مكان مجهول.
الأربعاء 1 شباط/فبراير 2012
اكتملت سيطرة قوات الجيش النظامي على منطقة الغوطة الشرقية واستمرت عمليات المداهمة للعشرات من المنازل مترافقة مع إعتقالات وسرقات وتخريب.
الخميس الثاني من شباط/فبراير عام 2012
بدأت قوات الجيش النظامي زحفها إلى الشمال الشرقي لتقديم المعونة إلى القوات التي لم تستطع الدخول من طرف الغوطة الشمالي الشرقي والتوجه إلى الغرب معها لدخول مدينة دوما. في ذلك اليوم سُمح لسكان كافة البلدات بمغادرة البيوت والتنقل إلى دمشق العاصمة.
كانت الطريق من بلدة سقبا إلى دمشق مليئة كالعادة بالحفر، لكن في هذه المرة كانت هناك حفر أخرى، تحمل علامات مصفحات مدرعة ثقيلة. تحمل المحال التجارية على كامل الطريق الرئيس علامات الآلاف من الرصاصات بعد أن سرقها عناصر الأمن وشبيحته. وكُسرت العديد من أعمدة الإنارة وسحقت بالمصفحات. منازل مهدمة، بعضها محروقة، عشرات الحواجز على الطريق والتي مهمتها التفتيش والتأكد من هويات الناس والأهم أن يأمروا المارة بالهتاف لبشار ولنظامه ولجيشه.